سورة المائدة | ح 1038 | 81 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسمِ الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله والصلاة والسلام على سيدنا رسولِ الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى بصيغة التأكيد "نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون". ربنا سبحانه وتعالى ينبهنا على حقيقة مرئية
مشاهدة عاشها الناس أجمعون عبر العصور أن من أراد الاستكبار والعلو في الأرض عاداه الناس، ومن أراد التواضع لله أحبه الناس، وهذه الحقيقة في وسط بيئة الدعوة الأولى كانت كذلك، فإن اليهود سواء كانوا في المدينة أو كانوا في خيبر أو كانوا في اليمن كان عندهم شيء من
الاستكبار وطلب العلو، ولذلك كرههم الناس، كل الناس. وكان الكِبْر عند المشركين جزءًا لا يتجزأ من حياتهم. واليهود يؤمنون بالإله الواحد رب السماوات والأرض، بينما المشركون وثنيون، منهم من لا يؤمن بالإله، ومنهم من يؤمن برب في السماء وبسبعة في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للحصين: "كم تعبد؟" قال: "أعبد ربًا
في السماء وسبعة في دَعْ الذين في الأرض واعبد الذي في السماء أي لكي يقربها له، وأسلم الحصين رضي الله تعالى عنه بتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم المختصر المفيد الذي يصل من القلب إلى القلب. إذاً، فهؤلاء اليهود مؤمنون وهؤلاء المشركون كافرون، فما الذي جمعهم في طائفة واحدة وجعلهما ضد المؤمنين هو؟ الكِبْر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُربي أمته: "لا يدخل الجنة من
كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كِبر". إذاً فالكِبر أساس هذا البلاء. طلب إبليس قبل ذلك العلوم ورأى نفسه أعلى من آدم، فرفض أن يسجد لآدم كأمرٍ مباشرٍ من الله له. قال تعالى: إلا إبليس أبى واستكبر، هذه هي العلة، إنها علة إبليسية، وكان من الكافرين. إبليس ليس ملحداً، فهو في الحضرة الإلهية، كان يعبد الله سبحانه وتعالى مع الملائكة،
ولو كان من غير جنسهم. إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه. سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس، هذا الإبليس الذي لعدم السجود الكِبر، والذي دفع وأنشأ العداوة في قلوب اليهود وفي قلوب المشركين ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكِبر. والكِبر والاستكبار فيه تعالٍ وطلب للعلو على خلق الله، ولذلك كانوا يرون أنفسهم أن الله قد فضلهم على العالمين، وهي حقيقة أقرها القرآن ولكنها
تشريف وتكليف فهموا هم منها. التشريف فقط وعلى طريقتنا في التفسير حيث لا نقف كثيراً عند الحقائق التاريخية التي يذكرها ربنا وأنها حق، وإنما نطلب من القرآن الهداية لنا. فما الذي يأمرنا ربنا به من خلال هذه الآية؟ يأمرنا ألا نكون من هؤلاء المستكبرين وأن نتواضع لله، فمن تواضع لله رفعه. فهي تربية إلهية ربانية. محمديةٌ نبويةٌ مصطفويةٌ
للمسلمين لنزع الكبر من قلوبهم، وأن الكبر سيجعلهم من هذه الطائفة التي تكبرت فكرهت فعادت وأبغضت خلق الله، وأن الله لا يحب هذا الصنف من الناس. يعلمنا ربنا سبحانه وتعالى أن نكون منصفين وأن لا نجعل الجميع في فرقة واحدة ولا في سلة واحدة، فبالرغم من مخالفة اليهود والنصارى لنبينا وعدم الاعتراف به، إلا أن النصارى لا يتكبرون، ولذلك
فهم يُمدحون بهذه الصفة. وسنمدح خلق الله جميعاً سواء آمنوا معنا أو اختلفوا معنا في الإيمان، لأننا أهل عدل وأهل إنصاف. ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى. فنحن أهل عدالة وأهل إنصاف. حتى مع المخالف، حتى مع المعادي، حتى مع من لم يؤمن بنبينا صلى الله عليه وسلم - والإيمان بنبينا هو ركن وحقيقة الإيمان - لتجدن أشد (وأشد
هي صيغة أفعل التفضيل) الناس عداوة، فعداوة الناس قد تختلف، فبعضهم يُظهرها وبعضهم يُخفيها، وبعضهم يعنُف بها، وبعضهم يكون رقيقاً نوعاً ما في ولكن يكون على قمة العداوة وفي أشدها وأشدها هو من كان مستكبراً كشأن اليهود وكشأن المشركين. ولتجدنهم ولتجدن أقربهم أيضاً، أقرب هنا اسم تفضيل، فهم متفاوتون
في هذه الصفة، فمنهم من هو قريب ومنهم من هو أقرب ومنهم من هو بعيد مودة. فسنرى المودة أيضاً مختلفة، وهذا نشعر به دائماً به في جيراننا وفي من نتعايش معهم أنهم ليسوا سواء للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، علة ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً، وما شأن القسيسين والرهبان؟ العبادة، أي كان منهم عباد، والعابد يرق قلبه، والعابد لا يتسرع بالعنف والأذى، والعابد يكون عنده
شيء من السكينة والهدوء، وأنهم لا يستكبرون. صفة أخرى تُضمُّ إلى الأولى وينشأ منها أن ذلك كله إنما هو توجيه إلينا لنربي أنفسنا حتى نفر من غضب الله وحتى نسعى ونسارع إلى رضا الله. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.