سورة المائدة | ح 1041 | 85 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى في شأن أولئك الذين فتحوا قلوبهم بعدما فتحوا آذانهم لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففاضت أعينهم من الدمع وآمنوا بما أنزل الله. على رسوله فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين، جزاء أن تعبد الله، وجزاء أن تخلي أخلاقك من الكبر والعناد،
وجزاء أن تؤمن بالله، وجزاء أن تتفاعل مع ما أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه، جزاء كل ذلك جنات، جزاء أن تدخل جنات. تجري من تحتها الأنهار، أي أنه في جنات وأنها تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها وفي استمرار. إن الكريم إذا وهب لا يسلب، يعني عندما يعطي الجنة لقوم، تفضل في الجنة دائماً، تدخل الجنة ولا تخرج
منها، إلى متى؟ خلاص، لا يوجد موت ولا يوجد تغيير ولا تبدل. فتظلوا أبد الآبدين، يعني حقيقة بسيطة مثل هذه نؤمن بها لكن لا نلتفت إليها، لا نفكر في معناها. والله لو فكرت في معناها لمسكت الدنيا ورميتها وراء ظهرك. يعني أنت فقط تصبر الثلاث دقائق التي ستقضيها في الدنيا، ثلاث دقائق هذه كم سنة؟ مائة سنة. المائة سنة ثلاث دقائق. عند الله إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، فسأل العادّين،
لا نعرف، لكن تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. اليوم بخمسين ألف ماذا؟ سنة. اليوم فيه كم ساعة؟ أربعة وعشرون. قل خمسة وعشرون لكي يصبح سهلاً، خمسين. على خمسة وعشرين يُصبح الساعة بألفي سنة، الساعة التي تخص ربنا، الساعة التي تخص الملائكة الذين يتبعون ربنا بألفي سنة. كم دقيقة في الساعة؟ ستون. ألفا سنة مقسومة على ستين، كم تكون؟ تكون بثلاثة وثلاثين سنة وثلث. ثلاث دقائق تساوي كم؟ مائة سنة. كم ستعيش حضرتك؟
أنت قد كلفك ربنا بعد البلوغ، وقد بلغت سن اثني عشر، خمسة. عشرة، يعني شيء مثل ذلك، فستعيش مائة وخمسة عشر عاماً. يعني أغلب الناس لا يعيشون هكذا، والذي يصل إلى المائة نقول عنه أنه معمّر، والذين يصلون إلى المائة كم واحد في المليون؟ يعني قليلون، لا يزيدون عن اثنين أو ثلاثة في المليون. حسناً، يعني إذا كانت أعمارنا... كان الله يرحمه الشيخ الغزالي... كان يقول وقد بلغ واحداً وسبعين أو اثنين وسبعين كان يقول لنا إن ما فوق السبعين نافلة، يعني هبة من عند الله هكذا. يعني سبعون عاماً تكفي، وما فوق السبعين نافلة.
واحد وسبعون واثنان وسبعون، وقد توفي رحمه الله في التاسعة والسبعين. كانت حياته هكذا، يمشي لا يصيبه شيء، والله يبارك في. الأعمار وتصل إلى تسعين وتصل إلى مائة لا يحدث شيء لكن كم شخص هكذا؟ قليلون. حسناً، فقصتك تساوي كم؟ يعني دقيقتين. ستون سنة زائد خمسة عشر، خمسة وسبعون سنة. دقيقتان وقليل، ثلاث دقائق تساوي مائة سنة. ألا تستطيع الصبر ثلاث دقائق لتدخل الجنة؟ ألا تستطيع الصبر؟ ثلاث دقائق على التكليف المقترن بالتشريف، لأنك عندما تصلي فإنك تشرف نفسك، وعندما تتوضأ فإنك تطهر نفسك، وعندما تدعو فإنك تخدم نفسك، وعندما تصبر فإنك تصبر لنفسك. لا تعرف كيف
تفيد نفسك! ثلاث دقائق لأجل أن تدخل الجنة، هذا هو السؤال الحائر الذي لا أجد له جواباً. السؤال نفسه. لا أجد للروح جواباً، أي والله. حسناً، عندما تكون عالماً بهذه الحقيقة، وتعلم أننا جميعاً سنموت، وتعلم أنها مسألة ثلاث دقائق، وتعلم أن هذا سيدخلك الجنة، وتؤمن تماماً أنه سيدخلك الجنة، أفلا تستحي وتتوقف عن المعصية وتنشغل بالطاعة وتهدئ نفسك هكذا؟ هذه هي القضية في حقيقتها، فأثابهم الله. بما قالوا أي بسبب ما قالوا، أي أنَّ قولهم هذا كان له جزاء وثمن عند الله، وهو جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك
جزاء المحسنين. المحسن هو من فعل الصالحات وزاد، أي من فعل الصالحات فقط يكون صالحاً، لكن إذا زاد عليها يكون محسناً. ما على المحسنين من سبيل. ليس عليهم سبيل عند الله، ولذلك قال لهم الحسنى، وعندما قال الحسنى، تساءلتُ: أتت أيّ وزيادة؟ لأن الإحسان فيه معنى الزيادة. العمل الصالح هذا جيد، ستُثاب عليه وكل شيء، لكن كونك تعمل أكثر فهذا إحسان. و"أحسِنوا" و"أحسِنوا"
هنا ماذا تعني؟ تعني زيدوا في الصلاح، لا تعمل بطريقة متكاسلة هكذا. حسناً، الإحسان الذي هو زيادة، أين الزيادة التي قام بها هؤلاء الناس؟ إنهم لم يؤمنوا فقط، بل إنهم آمنوا وبلَّغوا واعترفوا ودعَوا ونقلوا بعد الإيمان. هؤلاء الناس لم يؤمنوا ثم ينسحبوا، لا، بل هم بعدما آمنوا جاهروا وقالوا: "وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا". مع القوم الصالحين هذه هي
الزيادة وهذا هو الإحسان، فإنهم عندما آمنوا لم يسكتوا، لو آمنوا وسكتوا لأدخلهم الله الجنة، لكنهم آمنوا فبلغوا واعترفوا وجهروا بالحق ونقلوا ما آمنوا به وبرروا هذا الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغوا عني ولو آية"، هذا هو الإحسان إذاً، فربنا يجعلنا من المحسنين فأثابهم الله. مما قالوا: "جنات تجري من تحتها الأنهار"، من الوقف القبيح أن تقول: "جنات تجري"، لأن الجنات ليست التي تجري، بل الذي يجري من
تحتها هو الأنهار. فيقول لك: من الوقف القبيح أن تقول مثلاً: "فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري" وتقف هنا، فيتخيل السامع أن الجنات هي التي تجري. وهذا غير حاصل، فهذه الجنات عرضها السماوات والأرض، وإنما تقول جنات وبعدها صفتها تجري من تحتها الأنهار، فالجريان هنا يعود إلى الأنهار، وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.