سورة المائدة | ح 1042 | 86 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى في مقابلة شأن المؤمنين الذين ذكر أحوالهم وصفاتهم: "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم". الكفر في اللغة الستر، ولذلك سُمِّيَ الزارع كافراً لأنه... يُكفِّرُ الحبَّ في الأرض يعني يستر الحبَّ في الأرض حتى لا يأتي السيل فيحمل البذرة ولا
ينبت الزرع ويضيع، ولذلك فهو يُكفِّره أي يستره. والكفر هنا ساتر ما بين القلب وهو مُدرِك وبين الحقائق التي كان ينبغي أن يدركها، فحصل على القلب ستر فسُمِّيَ صاحب الستر بأنه كافر، وكافر اسم. فاعل فكأنه هو الذي ستر قلبه عن الإيمان، وهو اسم فاعل يعني ساتر. إذن ستر من مَن؟ ماذا ستر؟ ستر قلبه. فكان الكفر يحتاج إلى إرادة واختيار وتنبه والتفات، أي
يحتاج إلى قصد، وكأنه لا يكون كافراً من لم يقصد، ولذلك اشترط العلماء فيمن كفر أن يكون... كافرٌ قد أتى وهو قاصدٌ عالمٌ مختارٌ، يعني أن الكفر صدر منه بقصدٍ أولاً. فمن صدر منه الكفر من غير قصدٍ فليس بكافر، ولذلك قالوا: ناقل الكفر ليس بكافر. شخصٌ يأتي ويقول لك: "رأيت فلاناً يقول كذا، إنه يسب ربنا ويقول كذا وكذا"، هذا ليس بكافر. هذا الذي ينقل
الكفر كأنه يعترض. على ذلك الملحد أن يسب الله سبحانه وتعالى فأول شروط اتساق هذه الصفة الكفر بالإنسان حتى يصير كافراً القصد، ولا بد أن يكون عالماً فلا يكفي القصد أن يكون مريداً قاصداً، بل لا بد أن يكون عالماً بأن هذا إنما هو كفر وأن يكون مختاراً، فلا يجوز أن نصف من أُكرِهَ على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان بأنه كافر حتى لو نطق
بكلمة الكفر، إلا أنه لا يُسمى باسم الفاعل إلا إذا كان قد أتى الكفر قاصداً عالماً مختاراً، وهي شروط ثلاثة. ويتكلم ابن حزم في "الفِصَل" ويتوسع قليلاً عن هذه الشروط الثلاثة، ولذلك فإننا لا نُكفِّر مسلماً أبداً إلا إذا... كان الكفر قد صدر منه وهو المسلم الصعب، سموه صعبًا لماذا؟ في الفقه يسمون المسلم المسلم الصعب لأنه يصعب أن يخرج عن الإسلام، لا يعرف كيف، كأنك تريد كماشة لكي تزيله
من الإسلام، هذا لا ينفع. في هذا رد على المتسرعين في تكفير الناس، فالجميع عنده كافر. لا، المسألة ليست سهلة، بل هي مسألة صعبة. إذا أتى العمل الكفري كالسجود للصنم قاصداً عالماً مختاراً، فإذا فُقِدَ واحدة من هذه الثلاثة فلا يستحق اسم الفاعل. والذين كفروا، والذين كفروا، يبقى هنا استعمل الله سبحانه وتعالى الفعل ولم يستعمل اسم الفعل. والذين كفروا دائماً الفعل يشير إلى المصدر، الفعل
دائماً هو عبارة عن ماذا؟ الفعل مصدر مرتبط. بالزمن كفروا في الماضي يعني حدث كفر في الماضي، والذين كفروا لو كانوا كافرين فهذا يعني أنهم قاصدون عالمون مختارون؛ لأنه باستعماله اسم الفاعل الذي لا يستحقه الإنسان إلا إذا كان قد صدر منه تلك الصفة وهذا المصدر قاصداً عليماً مختاراً، فعندما قال "والذين كفروا" فهم قوم لا بد علينا من بيانهم. سبب اعتبار كفرهم واعتماده
وأنه كفر مؤثر فقال: "وكذبوا بآياتنا"، "كذبوا بآياتنا" يعني إذًا محض صدور الكفر بينهم لم يكن وحده كافيًا لأن يكونوا من أصحاب الجحيم، بل إنه لا بد أن يضاف إلى ذلك ما يدل على أنهم فعلوا ذلك الكفر قاصدين عالمين مختارين، ومن هنا أتى سبب آخر. غير محض الكفر لم يقل "والذين كفروا أصحاب الجحيم"، لو كان قالها لكان المعنى شيئاً آخر مُستنبَطاً منه أمور أخرى. ولم يكرر هنا، لم
يقل "والذين كفروا إذا كذبوا بآياتنا"، لا، هؤلاء قد فعلوا شيئين: صدر منهم الكفر، ثم صدر منهم ما يُدخلهم في القاصدين العالمين المختارين وهو التكذيب. متى يكون الإنسان مكذباً؟ أول شيء أنه يعلم بالأمر، وأن يكون قاصداً لهذا التكذيب. يعني بحث وقال: "أنا فهمت خلاص وأنا غير موافق". نعم، إذا فهمت وبحثت وفي
النهاية كذبت، فهذا يعني أنك علمت وفهمت وبحثت ثم كذبت. إذن لا بد في التكذيب من القصد، ثم أنه كذب. ولا يسمى المكره مكذباً، فلا بد... أن يكون قد صدر هذا التكذيب عنه من غير إكراه وإلا ما سُمِّيَ مكذباً، بل يُسمى مراوغاً، يُسمى مضطراً، يُسمى مُكرَهاً، يُسمى أشياء أخرى. وعندما عذبوا عمار بن ياسر كانوا يقولون له: "قل مذمم" لنخفف عنك العذاب، فتحت وطأة العذاب وهو لا يرضى
أن يقول على النبي المصطفى وهو محمد. مِن "الحمد" نقيضه "مذمم" وهو ضد الحمد. قتلوا أمه سمية أمامه واستمروا في العذاب، وأراد أن يصرف العذاب عن هذه العائلة التي ماتت المرأة أمامه، أمه وهو. فقال: "حسناً، خلاص، مذنب". فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ويقول: "يا رسول الله، اضطررت تحت وطأة العذاب أن أقول مذنب فقط". أنا متعب نفسياً منذ ذلك الوقت، وأقول أنني لست مؤمناً، فنزل قوله تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان". وقال له النبي: "يا عمار، إن عادوا فعد". إذا
عادوا وقالوا: "تعال سنضربك"، قل: "مذمم"، قل: "مزمم". صلى الله عليه وسلم. من الذي فاز؟ من عذب عمار أم سيد الخلق؟ اللهم صلِّ. على سيدنا محمد، وإلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.