سورة المائدة | ح 1044 |88| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 1044 |88| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون". في هذه الآية يبيح الله سبحانه وتعالى لنا الأكل ويجعل الحل هو الأصل فإن الأصل في الأشياء الإباحة، ولذلك لمّا كان المسلمون يواجهون ثمرة جديدة لا يعرفون خصائصها فتكون
مباحة إلى أن يظهر عكس ذلك، وحدث هذا في عدة أشياء عبر التاريخ. حدث هذا عندما عرف المسلمون شجرة التبغ وهي الطُمباك أو الدخان، وهذا عندما دخل وكان جديداً لم يره الناس من قبل أن حُكم عليه بالإباحة أولاً، ثم جاء من يقول إن هذه الشجرة تسبب أضراراً وأن تدخينها يسبب مخاطر ويسبب أمراضاً،
وحينئذٍ بدأ العلماء في بحث الحكم بكراهتها أو بتحريمها طبقاً للواقع الذي أدركه العالم. حدث هذا عندما ظهرت شجرة القنب الهندي التي تُؤخذ منها مادة الحشيش المخدرة، فإنها لما أباحها بعضهم ثم وجد أن تدخينها يسبب فتوراً عند الإنسان، فحكم العلماء بحرمتها، واتسع القائلون بذلك حتى أجمع العلماء على حرمتها. وألّف الإمام الزركشي "زهر العريش في تحريم الحشيش"،
بالرغم من أن فرقة من المسلمين حينئذ، وكانت تسمى بالقلندرية، كانت تبيح استعمال هذا النبات لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وليس له عدواناً على الشريعة وإنما لجهلهم بصفاتها، فلما تبيّن للعلماء وللمسلمين ضرر هذه النبتة أفتوا جميعاً بحرمتها. وهذه القلندرية صارت وكأنها نوع من السباب في لغة العوام، بعدما حوّلوا القاف إلى همزة بلغتهم: "الألندري" و"يا ابن الألندري"، يعني كان هذا نوعاً من السب
لهذا الأمر، لأن طائفة القلندر المنسوبة... لهذا الشيخ الذي كان يُسمّى بالقلندري أباحت شيئاً محرماً أو تمادت في التحريم أو في الإباحة بعد القول بالتحريم، فالأصل في الأشياء الإباحة. ولما ظهرت شجرة الكوكا، فإن الأصل فيها الإباحة، ولكن بعضهم ادّعى فيها ضرراً، فقال بعضهم بحرمة تناولها، وهذا الشأن حدث في شجرة حب البن وكذلك في الشاي. وكذلك في مثل هذه الأشياء المستحدثة، ثم
بعد ذلك وبعد أن منَّ الله على الإنسان بتحليل الغذاء وبالمعامل الدقيقة وببيان أثر المواد الفعالة في هذه النباتات في جسم الإنسان، تبيَّن بما لا يدع مجالًا للشك أن الدخان والقات والكفتة - والكفتة هي الورق الضئيل الصغير في نهاية ساق القات. وهذا مكتوب في كتب الفقه ويسمونها كفتة، وليست الكفتة التي يعرفها المصريون أنها نوع من أنواع اللحوم أو نحو ذلك، هذه حلال باتفاق، ولكن القات وهذا النبات الذي يسمى بالكفتة، وهذا الذي
يسمى بالدخان، وهذا الذي يسمى بالحشيش، والخشخاش الذي يؤخذ منه الأفيون، كل ذلك حرّمه العلماء واتفقوا على تحريمه. أما هذه النباتات مثل الشاي والقهوة والكوكا فإنهم اتفقوا على حِلِّها لما ثبت أنها لا تضر. هناك نباتات يكون لها نوعان: نوع طيب ونوع سام، مثل عش الغراب. فعش الغراب نبات طيب كثير البروتين نافع للجسم، لكن منه نوع سام يحرم على الإنسان أن يتناوله. والذي يحرم على الإنسان أن يتناوله قد ضُبط بضوابط
محددة: أولاً يجب أن يكون طاهراً غير نجس، فإن الشريعة قد حرمت النجاسة على المسلمين. ثانياً يجب ألا يكون مسكراً ولا مفتراً، ولذلك حُرِّمت الخمر والحشيش والقات والأفيون والمخدرات على المسلمين. ثالثاً يجب ألا يكون مستقذراً، فلو كان مستقذراً حُرِم تناوله، والمستقذر كشأنه - أعزكم الله التفاتة: هكذا، هذه الأشياء محرمة على الإنسان أن يتناولها، وهي طاهرة لكنها مستقذرة.
رابعاً: الضرر الذي يكون ضاراً مثل السم، فالسم ولو كان طاهراً مثل هذه النباتات السامة ومثل الأسماك السامة - هناك سمك به غدد سامة إذا أكلته مت - فيبقى هذا حراماً لضرره. وهذه الضوابط إذاً: النجاسة، والضرر، والخامس الاحترام، فيحرم مثلاً أن تأكل لحم إنسان. لماذا؟ مع أنه طاهر، ولقد كرمنا بني آدم، إلا أنه محترم، فيحرم
عليك أن تعتدي على احترام الإنسان الذي كرمه الله وتتناوله وتأكله، هذا حرام. إذاً فالأمر في هذه الخمسة نحفظها. حسناً، وماذا عن بقية الأشياء؟ لا، بقية الأشياء كلها - ملايين إلا ما كان نجساً أو مسكراً أو ضاراً أو محترماً أو مستقذراً. ها قد حفظنا. فيكون هؤلاء الخمسة هم الذين ماذا؟ وهؤلاء أقل أم أكثر؟ هؤلاء أقل، هم الأقل، خمسة. حسناً، كم نوعاً مقابلهم؟ إنها مئات وآلاف وملايين الأنواع هي مباحة وجائزة. وكلوا، كلمة "كلوا" صنعت هذه القاعدة. وكلوا.
مما رزقكم الله حلالاً طيباً، إذاً فالحلال أخرج النجاسة وأخرج الاستقذار وأخرج أيضاً المسكر لأنه غير حلال، وطيب أخرج الضرر وأخرج المحترم لأنه غير طيب، هو محترم يعني لا تتعدى عليه. إذاً قوله تعالى: "وكلوا مما رزقناكم" مما رزقكم الله حلالاً طيباً، وإن كانت كلمات قليلة إلا أنها أنشأت قواعد. واضحة جلية يسير عليها المسلم في حياته ويكون طعامه طيباً بإذن
الله. واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون. يعني هذه القضية، هذا حلال وهذا حرام، قضية تتعلق بالله رب العالمين. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.