سورة المائدة | ح 1049 |90| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 1049 |90| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى ما تميز به المسلمون عن سائر الخلق، بأنه قد حرم عليهم محرمات لم يحرمها في الأديان السابقة كهذا التحريم: "يا أيها الذين آمنوا إنما" الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، ولذلك عندما جاءت المبادئ الشيوعية في
بلاد المسلمين وكادت أن تطمس الهوية، لم يحافظ على هوية المسلمين إلا تحريم الخمر والخنزير، فترى المسلم بينهم لا يعرف شيئاً عن دينه، فهو لم يصلِّ منذ زمن بعيد ولم يهتم بصيام رمضان كثيراً من الأحيان لأن كثيراً منهم صلّوا وصاموا وحفظوا القرآن وتعلموا العربية في الجبال، ولكن جمهور الناس منهم لا يدرك ذلك إلا أنه لا يشرب خمراً ولا يأكل خنزيراً حفاظاً على هويته. وهكذا الإسلام أبداً يعلم أتباعه أشياء بسيطة قليلة، فإذا بها هي مفاتيح
الخير، وإذا بها تحافظ على هويته. في العالمين وعلى دينه بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وتحريم الخمر عند المسلمين أمر أجمعوا عليه جميعًا بجميع مذاهبهم من السلف والخلف، من السنة والشيعة والإباضية والظاهرية وغيرها. كل المسلمين يحرمون الخمر تحريمًا شديدًا، وجمهور العلماء على أن الخمر نجسة شأنها شأن النجاسات كالبول تمامًا، ولذلك هم ينفرون منها. بل
ويأنفون من النظر إليها. ويقول الشيخ الدردير وهو يشرح على متن خليل في فقه المالكية، حيث يقول الشيخ خليل: "والنظر إلى الحرام حرام". النظر إلى الحرام كمن هو حرام، فيمثل بالخمر. فالخمر ليست الحرمة فيها في شربها فقط، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وسَّع الحرمة فيها، والفقهاء. وسعوا أكثر وأكثر فحكموا بنجاستها وحرموا النظر إليها من
غير حاجة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد لعن في الخمر عشرة: لعن ذاتها، ولعن شاربها، ولعن الجالس في مجلسها، ولعن من أدارها على القوم (الساقي)، ولعن حاملها، ولعن عاصرها، ولعن من خمّرها من عصير العنب مثلاً أو من كذا. إلى كونها خمراً، ولُعِن من زرع عنبتها، ولُعِن بائعها، ولُعِن مشتريها، فلُعِن فيها عشرة. فالخمرة
شديدة التحريم حتى قيل في شأنها "أم الخبائث" في الأثر: "الخمر أم الخبائث". ويضربون لذلك قصة وهي أن رجلاً عُرِضت عليه في خلوته بامرأة الفاحشة فأبى، فسقته المرأة خمراً، وهو في غياب عقله ونشوته وقع. في الفاحشة وسمع طفلاً يبكي فقتله حتى يُسكت صوته، ووجد
مالاً فأخذه وهو لا يدري، وحلف بالطلاق فطلق زوجته، وخرج من عندها سكران فباع ملكها. فسمّوها أم الخبائث، أي كل ما يأنف منه العاقل، وكل ما لا يقع فيه العاقل فإنه يفعله في أثناء غياب عقله، أما الطلاق وهو غائب. العقل فإن بعض الأصوليين لا يوقعونه ولكن الفقهاء يوقعونه تشديداً عليه لما فعل من شرب الخمر المسكر
الحرام إذا كان ذلك بإرادته ورغبته. فالخمر أم الخبائث والذي يتعود على شرب الخمر يصل به الحال إلى الإدمان فلا يستطيع أن يمسك نفسه من ذلك الإدمان. والخمر مدمرة وهي أشد دماراً عند وصولها إلى مرحلة الإدمان من كل محرم كالمخدرات والدخان وما إلى ذلك، هي أشد ضرراً من كل محرم، ومن هنا نكتشف
قوله تعالى "فاجتنبوه"، ونعلم أن الاجتناب هو أشد من التحريم، أو هو التحريم من كل جهة، فيسد هذا اللفظ كل جهة توصل إلى شرب الخمر، كما لعن رسول الله صلى. الله عليه وسلم في الخمر عشرة وكما وسّع الفقهاء فجعلوها نجسة وجعلوا النظر إليها محرماً بناءً على قواعد الشريعة فلنعلم أن هذا هو معنى "فاجتنبوه"، والخمر لا
بد في اعتبارها من هذا: قضية الإسكار وقضية الاستعمال، فلا بد أن تكون الخمر مسكرة، فإذا زال عنها صفة السكر تحولت بذلك من... كونها خمراً إلى كونها خلاً، والنبي يقول في شأن الخل: "نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ" أخرجه البخاري. وأكل الخل من صفات أهل الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الخل حامض قابض، كان يأكل منه بالخبز ويقول: "نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ"، يعني الإدام يعني
الغموس الخل. وأخذ الفقهاء قاعدة جليلة من قالوا فيها بالاستحالة وأن الاستحالة من المطهرات، فالخمر النجس إذا استحالت خلاً، أي تحولت إلى الخل، طهرت. ولذلك يشترط الشافعي في هذا التحول أن يكون بنفسه حتى يُحكم بطهارتها، لا أن نلقي فيها شيئاً يفسد خمريتها ويؤدي إلى تحولها إلى خل. فلو فعلنا ذلك لأصبح هذا الشيء نجساً ولما بعد
إلى نجس ويصبح الخل متنجساً، ولذلك اشترط أن يكون ذلك في تحول الخمر خلاً. والخل لا يمكن أن نصل إليه إلا أن يكون الأمر كان خمراً في الأول. هذه قاعدة جليلة تدل على أن الأحكام ليست على الذوات وإنما هي من أجل الصفات، لأن هذه الذات تحولت فتحولت من النجس. إلى الطهارة ومن الحرمة إلى الحل ومن كونه من أم الخبائث إلى كونه نعم الأدم وهذا أعطى الفقهاء عقلاً راجحاً في تقويم الأمور وفي بناء الأحكام على الصفات وليست على
الذوات، والصفات هنا تتعلق بالأفعال. فقالوا: الحكم هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر وإنما للقصر والحصر، والقصر والحصر قد يكون قصراً ظاهراً وقد يكون قصراً حقيقياً، والأمر هنا هو قصر ظاهري، وفائدة القصر الظاهري العناية والرعاية ومزيد الاهتمام بهذه الأمور الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وإلى
لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.