سورة المائدة | ح 936 | 19 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير". والله على كل شيء قدير. تنبيه في إثر تنبيه على أهمية إرسال الرسول المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وسلم، فقد جاء على حين
فترة من الرسل. والفترة هي المدة، وأهل الفترة أي أهل المدة الواقعة بين نبيين. فبعد عيسى لم يرسل الله سبحانه وتعالى رسولاً إلا خاتم النبيين محمداً الله عليه وسلم فقد جاء رسولاً بعد عيسى، وهذا لا يتعارض مع مجيء بعض الأنبياء إلى قومهم، فإن الفرق بين النبي والرسول أن النبي قد يُنبأ لنفسه وقد يُنبأ لقومه
وعشيرته، ولكن الرسول أرسله الله سبحانه وتعالى برسالة وبوحي أو بكتاب وتكليف، وقد يكون لقومه جميعاً وقد يكون للعالمين كما أرسل آدم وأرسل نوحاً وأرسل النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم للعالمين، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وما أرسلناك إلا للناس كافة. وكان النبي يأتي إلى قومه خاصة، وبُعثت للناس كافة. إذاً فالرسول أخص من النبي، فهو نبي ويزيد على النبوة بتبليغ الرسالة والوحي والكتاب إذا
كان معه كتاب. فليس كل رسول معه كتاب، فآدم نزل وليس معه كتاب، ونوح كان ولم يكن معه كتاب، ولكن هناك صحف لإبراهيم، وهناك زبور لسيدنا داود، وهناك توراة مع سيدنا موسى، وهناك إنجيل مع سيدنا عيسى، وهناك فرقان وقرآن مع سيدنا محمد صلى الله عليهم أجمعين وسلم تسليماً كثيراً. فالنبي يُرسل إلى... قومه خاصة، ولذلك قد يكون هناك نبوة بين عيسى وبين محمد، ولكن ليس هناك رسالة. وهناك
من وردت أخبار على أنهم أنبياء، ولكن هذه الأخبار لا تقوى بحيث أننا يمكن أن نأخذها. وهذه الأخبار أيضاً تتكلم عن النبوة، أي التي يمكن أن تكون خاصة بالنبي أو خاصة به وبأهله وهكذا. فعلى كلِّ حالٍ، البشيرُ النذيرُ المبلِّغُ لم يكن، وكانت هناك فترة، والفترة معناها المدةُ بين النبي الرسول والنبي الرسول. أهلُ الكتاب يخاطبهم ربُّنا
فيقول: "يا أهلَ الكتاب قد جاءكم"، إذاً أنتم أولى الناس بتصديق محمد، لأنَّ الفارق بينكم وبين ما يدعو إليه هو الإيمان به، فأنتم تعتقدون في الإله وتعتقدون. أن الإله لم يترك الناس عبثاً وتعتقدون أنه يوحي إلى صفوة من خلقه وهم الأنبياء والرسل، وتعتقدون أنه ينزل معهم الألواح والكتب والصحف، وتعتقدون في النبوة وتعتقدون في كل ذلك وفي التكليف، وتعتقدون في اليوم الآخر، فما الذي يبقى إذاً حتى تؤمنوا الإيمان بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأنه. رسولٌ من عند الله يا أهل
الكتاب قد جاءكم. هل جاءهم وحدهم؟ لا، جاء وجاء لمشركي العرب وجاء للعالمين. فلماذا خصهم بالكلام؟ لأنهم أقرب الناس للإيمان به. يعني هذا المشرك يحتاج إلى أن يترك آلهته، هذا المشرك يحتاج أن يؤمن بوحدانية الله، هذا المشرك يحتاج أن يعتقد في التكليف من. عند الله وأن الحاكم هو الله، هذا المشرك يحتاج إلى التصديق بيوم آخر، يوم القيامة. هذا يعني بُعداً، نحتاج إلى مجهود. أما أهل الكتاب فلا يحتاجون إلى هذا المجهود، بل إن الخطوة بينهم وبين الإيمان [قريبة]، فخاطبهم: أنتم أولى
الناس بأن تؤمنوا وأن تكونوا مثالاً صالحاً لغير المؤمنين وللمشركين وأن وتعزروا وتنصروا هذا الرسول قد جاءكم رسولنا يبين لكم وكلامه تعرفونه وتعرفونه أنه بيان وأنه واضح ولا إشكال فيه بل هو في غاية البيان يبين لكم على فترة من الرسل وأهل الفترة وهم أولئك الذين لم يصلهم رسول ولم يأتهم نبي ولا بشير ولا نذير يرى أهل السنة والجماعة أنهم ناجون يوم القيامة،
أهل الفترة ناجون، لكن هذا لم يصلِّ ولم يصم، وربما قلّد أهله في عبادة الوثن، ومع ذلك هو ناجٍ. "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"، إذا لم يكن هناك رسول، فلا يوجد عذاب. "ذلك مبلغهم من العلم"، علمه هكذا، ماذا سيفعل؟ هل أنت أرسلت لي رسولاً وأنا أنت أوضحتَ لي وأنا قلت لا، قلتَ لي أصلِّي، قلتَ لي أصوم وأنا قلت لا، ولله الحجة البالغة، ولذلك يعفو عن هؤلاء. فأهل الفطرة بالتنبيه ليس بالطاعة، ما هي الفطرة يعني الجبلّة القويمة التي في الإنسان، لكن الفترة، أهل
الفترة يعني المدة التي تقع بين نبيين ورسولين. إذاً أهل... الفترة ناجون، ولذلك فعند جمهور أهل السنة والجماعة فإن أبوي مصطفى صلى الله عليه وسلم في نجاة. لماذا؟ قال لأنهما كانا من أهل الفترة. إذن السيدة آمنة والسيد عبد الله هم من أهل الفترة فهم ناجون. هل فهمت؟ وإنما يرى بعضهم لنصوص اشتبهت عليهم أن أبوي النبي صلى الله عليه. وسلم يؤاخذان يوم القيامة. والصحيح الراجح
الذي عليه جمهور العلماء أن أبوي مصطفى صلى الله عليه وسلم في النجاة. أما الأحاديث التي تتحدث عن ذلك فمثل قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي "أبي وأبوك في النار" عندما سأله: "يا رسول الله، هل أبي في النار؟" فقال: "أبي وأبوك في النار". قال العلماء إن هذا الأمر مخصوص بشيء فيه والده، أما أخبار النبي صلى الله عليه وسلم فهذا قبل أن يوحي الله له بنجاة أهل الفترة، يعني
قبل نزول قوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً". واستدلوا بأنه قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزورها". فأذن لي، فقالوا: هذا دليل على النجاة وليس دليلاً على المؤاخذة، لأنه لما استأذن صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لها باعتبارها خالطت الشرك، لم يأذن له لأنها ليست في حاجة إلى ذلك، بل هي ناجية. فلما
استأذنه في زيارتها أذن له لأنها ناجية، وبذلك يستقيم الفهم. إذاً، فأهل الفترة... عند أهل السنة والجماعة وباتفاق ناجون وخصوصاً الأشخاص ونخص منهم الوالدين مصطفى في نجاة. أما من نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه هلك فلمعنى زائد على أنه ليس من أهل الشرك، كما قال في أحدهم أنه لم يقل "رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" أو في أحدهم إنما... فعل ذلك لسمعة يسمعها فهذا خاص به والله تعالى أعلى
وأعلم. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.