سورة المائدة | ح 940 | 20 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 940 | 20 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين". هنا يقص الله علينا القصص حتى نعتبر بحال الأنبياء السابقين، وفي كل آية يقص علينا فيها القصص إنما يوجه الكلام إلينا حتى نستنبط ونستخرج ونستفيد من حال أولئك الذين رضي الله عنهم. فعندما
يتحدث عن موسى وعيسى وإبراهيم، وعندما يتحدث عن أمثلة صالحة، فإنما لنقتدي بها ونأخذ منها أحكامنا وسير حياتنا القرآن ليس كتاب تاريخٍ وإنما كتاب موعظةٍ وهدًى وبيانٍ، كتاب حياةٍ. وإذ قال موسى لقومه، حينما نرى شخصاً عظيماً مثل سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يتكلم لقومه، فنحن نقف عند قوله "وإذ قال موسى لقومه"، مما يعني أنه لا بد من اتصال القائد بشعبه.
قال موسى لقومه، فلو... انعزل القائد عن شعبه لأي سبب كان، فهناك من اعتزل شعبه من أجل المهابة، يكون في هيبة هكذا لا أحد يستطيع الدخول عليه. فنأتي نحن ونرى في الكتب أن هناك نموذجًا يحتجب عن شعبه لأجل المهابة، ونقرأ في القرآن "وإذ قال موسى لقومه"، نتبع من؟ أنتبع صاحب المهابة هذا أم نبي الله موسى لا نتبع نبي الله
موسى، ولا بد أن نزيل هذا الخاطر من أنفسنا، ونرى أن موسى لقومه تبين لنا علاقة القائد بجماعته على كل المستويات، فأصبح الأمير والرئيس والمدير ورئيس الشرطة والقائد الذي في الجيش، كل هؤلاء أصبح كل شخص منهم إماماً لجماعة، صغرت الجماعة أو كبرت أن تصل إلى الشعب كله، القائد مع جنوده لابد أن يتحدث إليهم، لابد أن يحدث
اتصال بينهم. فكرة المهابة هذه فكرة غير موجودة هنا، فلنتأملها وحدها، لكن من سنن الأنبياء أن هناك اتصالاً. خطوة أخرى: "وإذ قال موسى لقومه"، هذا المضمون، نحن هنا في أي شيء؟ في فكرة الاتصال "لقومه". يا قومي، ونلاحظ أن آخر الكلمة ميم، وكان المرء ينتظر أنه ينسب هؤلاء إلى نفسه فتكون
فيه ياء الملكية مثل "كتابي" أو "ثوبي"، فهناك ثوب وثوبي. هذه الياء التي تدل على أن هذا الشيء ملكي، لكننا لم نجد هذه الياء في "يا قوم"، بل وجدنا الميم عليها كسرة هكذا. فهل هو يريد أن يقول لهم "يا قومُ" وليس "يا قومي"؟ ألم تكن الكسرة موجودة؟ إنه يريد أن يقول لهم "يا قومي" بالياء. إذن ما الذي حذف الياء الآن؟ أين ذهبت؟ قال: هذه لغة، هذه لغة العرب هكذا، إما أن تثبتها أو تحذفها، والاثنان
جائزان يا ابن أم، وهذه الأم. ماذا تحتها؟ كَسَرَ كذا. يا ابن أمي! هارون يقول لسيدنا موسى: "يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي". حسناً، أين ذهبت كلمة "أم" هنا؟ لقد قال: هذه لغة. يا قوم، ولو وصلناها "يا قوم اذكروا، يا قوم اذكروا"، ها قد كسرناها هنا. والذي يسمع يمكن أن يسمعها "يا لن تأتي هكذا، لأنه لو كان فيها ياء لأخذت الياء مساحتها. "يا قومي اذكروا" كنا حينها سيكون فيها مد منفصل. "يا قومي اذكروا" لا، لم يكن سيكون فيها مد منفصل لأن هذه همزة وصل وليست همزة قطع. "يا قوم اذكروا"
أصلاً هناك شخص من ورائها يقول إن فيها مد. فهو الذي ماذا؟ نرد عليه. طيب، الياء ذهبت إلى أين؟ لغة، إذًا ربما أننا كنا نقول هكذا، وربما أننا كنا نقول هكذا. ثم يأتي العلماء إذن، لا يقفون عند هذا، لأن هذا، هذه، ممكن وممكن، خلاص انتهى الكلام إذن. قال: لا، طيب ولماذا اختار "يا قوم"؟ هذا كان "يا قومي". ما هذا ممكن وذاك ممكن، فلماذا اخترت هذا؟ انظر الآية، حب الوقوف عند كل لفظة قرآنية واستنباط معنى منها، هذا هو منهج القراءة الذي نؤكد عليه. فالأمر يحتاج إلى فكرة، يحتاج
إلى تدبر، تحتاج أن تجلس هكذا متأملاً مع نفسك مع كلمة واحدة. الله حذف الياء لأن هذه... ياء تدل على ماذا؟ على المِلك. حسناً، هؤلاء القوم ليسوا مِلكه، هم منسوبون إليه، نعم، لكنهم ليسوا مِلكه. فعندما يحذفها في هذا الموطن، فكأنه يشير إلى أنه "لا تزر وازرة وزر أخرى"، ويشير إلى استقلال هؤلاء الناس، وأنهم ليسوا مِلكه وإن كانوا منسوبين إليه، لكن العلاقة التي... بيني وبينكم هي علاقة الإمام، علاقة الرئيس، علاقة الناصح، علاقة المرشد،
علاقة الهادي، وليست علاقة المالك. وهذا المعنى يسمونه معنى إشاري ذوقي، يأتي لبعض الناس ولا يأتي لبعضهم. ليس بالضرورة أن يكون معناها هكذا، يقول لك: أنا أشعر أنها جاءت هنا لأجل ذلك الذي... هم يسمونها في ظلال القرآن، أي شيء لا يأتي من العلم بقدر ما يأتي من التلقي. "وإذ قال موسى لقومه يا قوم"، أخذنا منها اتصال الرئيس بالمرؤوس، وأخذنا منها
أن هذه العلاقة التي بين الرئيس والمرؤوس ليست علاقة عبودية ولا علاقة تسلط ولا علاقة شيء من هذا القبيل ولا. ملكية وإنما هي علاقة الإمام بالمأمومين والمرشد بالمسترشدين وهكذا إلى آخره. نأتي الآن ثالثاً إلى المضمون، قال لهم ماذا؟ "اذكروا نعمة الله"، أي إنه يربط دائماً نصيحته بالله، جعل الله حاكماً في حياتهم، وأنهم لا بد أن يذكروا الله سبحانه وتعالى، وأن يذكروا نعمة. "اذكروا نعمة الله عليكم
إذ جعل أنبياء والنبي يأتي بماذا؟ هذا التكليف من فضل ربنا عليكم. ما معنى هذا التكليف؟ إلزام ليس فيه مشقة أو طلب ليس فيه مشقة. طلب ليس فيه مشقة. التكليف يعني شيئاً شديداً؟ لا تنظر إليه من هذه النظرة. انظر إليه على أنه نعمة. إن الله أنعم عليك لأنه قال لك ماذا هذا لو كان تركك لكنت سوف تحتار وستظل في حيرة، لكنه لم يتركك عبثاً، أعطاك البرنامج الذي يرضى به عنك، وأعطاك إياه بصورة محددة: ابتعد عن هذه المحرمات، لا تسرق، لا تزنِ، لا تقتل، لا تكذب، لا توجد غيبة، لا توجد
نميمة، لا تغتصب، لا تفعل كذا، لا تشرك بالله. يُمنع عليك الأذى والسحر، صلِّ وصُم وحُجّ واذكر الله وتصدّق، وأحسن سلوكك في البيع والشراء والزواج، افعل ما أُمرت به وانتهِ عما نُهيت عنه، فبيّن لك أهذه رحمة أم لا، وأصبح الطريق واضحًا والبرنامج واضحًا. نقصر مع أنفسنا ونكسل ونقول "أستغفر الله" في اليوم التالي ونبكي لأننا فعلنا ذلك ونستمر الطريق ليس عليه شيء، ولكن الأمر واضح. لكن لو كان تركنا في حيرة، نسأل الله السلامة، لما كنا نعرف ماذا، ولكان ازداد الأمر سوءاً. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله