سورة المائدة | ح 941 | 20| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وعند قوله تعالى: "وإذ قال موسى لقومه يا قومي" وهي من غير ياء، يخاطبهم: "يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء"، هذه واحدة وذكرناها في حلقةٍ سابقة: "وجعلكم ملوكًا"، إذًا هذه نعمةٌ كبيرةٌ أن هؤلاء الذين فُرِضَ عليهم الرق والعبودية أصبح منهم
ملوكٌ، فينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى على أن نقلهم من حالٍ غير مرضيٍّ إلى حالٍ مرضيٍّ، فالعبودية فيها نوعٌ من أنواع الذل، وفيها استخدامٌ للعبد، وفيها تقييدٌ له، فلا يجوز له أن يتحرك إلا في مساحة معينة وفيها أن يتعامل السيد مع العبد على أنه ملك له، ولذلك ينحط من درجة الإنسان حيث ما كرمه الله سبحانه وتعالى إلى درجة الأشياء التي يجوز التصرف فيها بالبيع والشراء والهبة
والوصية وغير ذلك، وتنتقل الملكية من يد إلى يد، وهو أمر تشوف الشارع دائماً إلى. الفكاك منه فكون هذا يصبح ملكًا معناها أن الأمر بيد الله وأن من كان بالأمس دنيًا صار الآن عليًا. إذًا يستوجب هذا الفضل وتلك النعمة من عند الله الشكر. ذكَّرهم بذلك، أخرجهم من العبودية وصيَّر فيهم ملوكًا. وجعلكم
ملوكًا يعني: وجعل منكم ملوكًا، وهذا معروف في لغة العرب أن يكون. الحكم جارٍ على بعضهم فيُعبَّر عنه بكلهم، الحكم جارٍ على بعضهم لأنه ليس من المعقول أن بني إسرائيل جميعهم كانوا ملوكاً، لا بد أن بعض بني إسرائيل هم الملوك والباقون من بني إسرائيل هم الرعية، فكان وصف هذه الحال يقتضي أن نقول: "وجعل
منكم ملوكاً"، "وجعل منكم" يعني وجعل بعضكم، ولكن النص يقول: "وجعلكم ملوكاً"، فإذاً يُطلق الكل ويُراد البعض، وهو من أنواع المجاز المشهور أن نطلق كلمة تعبر عن الكل ولكننا نقصد البعض أو بعض هذا الشيء. فتقول: "وضعت إصبعي في أذني"، لكنك لم
تضع إصبعك كله في أذنك، إنما هو بالكاد طرف الإصبع، فأُطلق الإصبع. وأراد طرفه الطرف جزءاً ولا الجزء من الإصبع فأطلق الكل وأراد البعض، وجعلكم ملوكاً يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم فالسؤال: هل هناك رسول ونبي يأتي من الجن؟ والإجابة بإجماع المسلمين: لا، فالرسالة والنبوة
مختصة بالبشر. حسناً، إذا كانت مختصة بالبشر، فهذا يقول لك "رسل منكم". قالوا لا، هذه معناها من بعضكم الذين هم الآية الرسل، واستدلوا بالآية التي معنا "وجعلكم ملوكًا" يعني جعل بعضكم ملوكًا. "يأتكم" يعني يأتيكم رسلًا من بعضكم، هي منكم أي من بعضكم. قال تعالى في شأن البحر والنهر: النهر
هذا ماء عذب، والبحر ماء ملح، والشافعي كان يقول ماء مالح. لغة هكذا، ماء، ملح، وهذا صحيح. مالح صحيح أيضاً. ما دام الشافعي قالها فهي حجة في اللغة. يخرج منهما من هما، أي من البحر، والآية، والنهر، اللؤلؤ والمرجان. حسناً، اللؤلؤ والمرجان هؤلاء في البحر وليسوا في النهر، فكيف يخرجون منهما؟ قال "منهما" يعني من بعضهما. اللغة
هكذا، والذي لا يعرف... لغة لا يعرف معناها. العربي يقول يخرج من هذا المكان ويشير. هو يتحدث عن "بينهما برزخ لا يبغيان" فيتحدث عن الحد الفاصل الذي يوجد في سواحلنا في دمياط السواحل التي تسمى المنطقة بالسد. الآن صنعوا سداً هكذا حتى لا تدخل المياه المالحة في المياه العذبة، سد. يعني فقط لغتهم هكذا، حسناً، "البرزخ لا يبغيان" الذي كان معمولاً ليخرج منهما، نعم لأنه يتحدث عن هذه
المنطقة، لكنه في الحقيقة ماذا يخرج من أحدهما؟ هذا أمر مشاهد محسوس، يفهمنا كيف كانت تتكلم العرب وأن عندها إطلاق البعض وإرادة الكل، كما عندها إطلاق الكل وإرادة ماذا؟ البعض، يقول. صليتُ ركعةً، صليتُ ركعةً، ماذا يعني ذلك؟ يعني صليتُ قياماً، قرأتُ الفاتحة، ثم ركعتُ، ثم قمتُ، ثم سجدتُ، ثم قمتُ، ثم سجدتُ، وكل هذا سميته ماذا؟ ركعة. إذاً أسميته تسميةَ البعض أطلقتها على الكل، وأحياناً الكل كالإصبع أطلقته على البعض، هكذا في اللغة. "وجعل
لكم ملوكاً"، فيأتي شخص ويقول لك لا يوجد مجاز في القرآن؟ إنه مليء بالمجاز، ولذلك لا بد أن نقول بالمجاز، لأننا إذا لم نقل بالمجاز لا نفهم الفهم الصحيح. يعني عندما يقول: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى"، هل معنى ذلك أن من فقد عينيه في الدنيا - عينيه اللتين هما عضوان - أعمى، لا، لكن معنى العمى هنا عمى البصيرة وليس عمى البصر. "يُحشَر في الآخرة أعمى". قال: "ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد
كنت بصيراً". هذا يعني إذاً أن البصير الذي في الدنيا سمّاه أعمى لأنه أعمى القلب. "وقد كنت بصيراً". قال: "كذلك أَتَتْكَ ءَايَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك". اليوم أقول لك إذا نسيت أن الأعمى ليس هو الأعمى الذي في الدنيا، فهذا الأعمى الذي في الدنيا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - حيث أنه مؤمن - قال فيه: "من ابتلاه الله بفقد حبيبتيه"، انظر إلى الكلام في الدنيا، "أدخله الله الجنة". إذن فالمجاز واقع في القرآن
ما لم يُؤتَ أحداً من العالمين في عصرهم فآتاهم النبي وحُرِم الآخرون من إتيان النبوة إليه، وآتاهم الكتاب وحُرِم الآخرون من هداية الكتاب والوحي، وآتاهم بالمعجزات رأوها وسمعوها وعاشوها مع سيدنا موسى وحُرِم الآخرون من ذلك، وآتاهم بالنصر وأهلك آل فرعون وجنوده وهم تمتعوا بالنصر وتمتعوا بالنجاة، فكان ينبغي عليهم أن يشكروا الله وأن يحمدوه ولكن الطغيان في هذا الأمر كان ديدناً لهم. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.