سورة المائدة | ح 942 | 24| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة ما إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى على لسان سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا". خاسرين بعد ما بيّن لهم النعم التي أنعم الله عليهم بها نعمة الحرية ونعمة التمكن في الأرض ونعمة الانتصار ونعمة الهداية والوحي والكتاب ونعمة التفضيل على العالمين
في الآية التي قبلها "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء" الوحي والكتاب والهداية وجعلكم ملوكاً. تمكينٌ في الأرض وآتاكم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين، النصر والتفضيل وهكذا والنجاة. يا قوم ادخلوا، إذاً فشكر النعم يكون بالعمل. ادخلوا، أمرُه تكليف. ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين،
أمرٌ وتحذيرٌ من مخالفة الأمر. فإذا بالأمر لم يُنفَّذ، ادخلوا قالوا له. لسنا داخلين، ربنا كتب، فهل قالوا: "لا نريد ذلك، سترتدون على أدباركم"؟ قالوا: "الأفضل لو ارتددتم على أدباركم، ستنقلبون خاسرين". قالوا: "ليس لنا تدخل، اذهب أنت وربك فقاتلا". إنها هنا، ما بالكم جالسين هكذا؟ إذاً، فهذا الوعد وهذا الكتاب الذي كتب لهم،
فرطوا فيه، فلما فرطوا فيه لم يكونوا من هذا على الأقدمين فما بالك بالمحدثين، إذا كان هذا أصلاً على مَن نزل الوحي وهم يرونه وفي وسطهم، أبوا وتدابروا وأدبروا فانقلبوا خاسرين. إذن لا يوجد حق تاريخي في فلسطين، الحق التاريخي لمن وحّد الله ولمن أقام كتابه فلم يحرفه ولمن نصر الله ورسوله في نفسه ولمن قام بالعهد، فإذا أبوا أن يقوموا بالعهد فقد
خرجوا عنه وانتهى الأمر، لكن التدليس والتلبيس ما زال مستمراً. ولذلك نتعجب لما خصص الله سبحانه وتعالى قصص سيدنا موسى وكرره هذا التكرار في كتابه، لأن المنازعات ستكون حول هذه المفاهيم إلى يوم القيامة. ولذلك وضح وبيَّن وكرر وأعاد وزاد ونبَّه، وقل ما تريد الآن. أنت تريد حتى يجعل لنا هداية نسير بها إلى يوم الدين "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم
فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين". ما زلنا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. لم يقولوا نعم والله لا نقول لك كما قالت. قال بنو إسرائيل لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون". والله لو أردت أن تخوض بنا بحار الرمال لخضناها معك. والله لو لم يرَ أحد الفرق، فهو فرق بين ناس بادرت وصارعت وفرّت إلى الله، وناس تقول له: "يا
موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها". فمن الذي رفض من؟ الذي نقض من؟ الذي أبى. لم ندخلها ولن. هذه أقول عنها: إذا قال الزمخشري أنها للتأبيد، فالصحيح أنها للمستقبل. "لن ندخلها" يعني على رقبتنا ندخلها؟ لسنا سندخلها في المستقبل. هكذا، لسنا داخليها. "لن ندخلها حتى يخرجوا منها" يعني هناك جبلة في عدم طاعة لربنا. فإن يخرجوا منها فإننا داخلون إليهم، حسناً، هذا وطنهم، ولكنهم
حينئذ لم يقيموا شرع الله ولا يعرفون شيئاً عن وحدانيته. وطنهم! ما الذي يخرجهم منه؟ مجموعة الجبارين هؤلاء، من الذي سيخرجهم منه؟ القضية أن هذه مقدسات ينبغي ألا يُمنع عنها أحد لأنها مقدسة عنده. فإذا منعها هؤلاء الجبارون ومنعوا الناس من الوصول إليها استحقوا الإزالة فأذن الله في إزالتهم، فأداة الإزالة أبت وقالت: أبداً لن ندخلها، أبداً لم ندخلها حتى يخرجوا منها، لن ندخلها. إذاً فليس هناك في الحقيقة لا عهد ولا
حق تاريخي ولا حق شرعي ولا شيء. لقد أراد الله لهم الخير ولم يريدوه لأنفسهم، قالوا يا موسى إن فيها قوماً. جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ولذلك حُرِموا منها ولم يدخلوها في حياة موسى حتى إن موسى قد مات على رمية حجر من الأرض المقدسة ودُفِن حيث مات فإن الأنبياء تُدفن حيث ماتت ورآه النبي رأى قبره في ليلة الإسراء والمعراج وقال رأيت موسى قائماً يصلي في
قبره عند الكثيب الأحمر يعني في ذلك مكانٌ مرتفع لونه أحمر، والكثيب يعني تلّة مرتفعة، وعندها قبر سيدنا موسى. والنبي كُشِفَ له أن موسى يصلي في قبره. أخرجه البخاري. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب فإن دخلتموه فإنكم غالبون وعلى. الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنها هنا قاعدة يُؤخَذ من هذا أن
العهد لم ينعقد وأن الحق لم يُستَوفَ قال رجلان ومعنى هذا وأقل الجمع عند العرب ثلاثة فلماذا قال رجلان لكي يبين لك أنه حتى لم تصل جماعة منهم. ما هي الجماعة؟ أقلها ثلاثة. إنها حتى الجماعة لم تصل، إنهما رجلان فقط. حسناً، وماذا يفعل موسى؟ إنه لا توجد جماعة أمامه ليتحدث معها. إن كل القوم وكانوا كثيرين، لأنه عندما اختار منهم، اختار سبعين رجلاً لميقاتنا، يعني اختار سبعين شخصاً. يقول كانوا
كثيرٌ في هذه الأمة، وليس فيها إلا رجلان كانا يخافان. ثم ماذا قال؟ قال: "رجلان من الذين يخافون". يخافون حكمة بليغة أنه أطلق القول "يخافون"، ولم يقل يخافون ماذا. يعني لم يقل "رجلان يخافان الله" أو "من الذين يخافون الله". هذان الرجلان من أين؟ من الذين يخافون. ماذا يخافون؟ أو الأمة ولا يخافون من مغبة المعصية. نحن دائماً نُدخل أنفسنا في مشاكل يا إخواننا. كلما لم نطع سيدنا موسى، كلما جاءتنا مشاكل. يخافون أي شيء؟ ماذا جعلها مطلقة
يخافون. من الممكن أن يكونوا خائفين من ربنا، هذا شيء من التقوى. أنعم الله عليهما، إذن كانوا خائفين من كل هذا، خائفين. من الله وخائفين على الأمة وخائفين من عاقبة المعصية، ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، ولكن لا توجد فائدة، لا هذه الموعظة نفعت ولا غيرها نفع، قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك،
فلماذا لم يقولوا له؟ اذهب أنت وربك والرجلان اللذان قالا نعم، يعني ما معنى هذا؟ معناه أنهم قد أنزلوا النصيحة منزلة العدم، أي أنهم لم يسمعوا. هذان الرجلان أغلقا آذانهما إلى درجة أنهما لم يريا، فهما لا يريان أن هناك رجلَين. ولذلك عندما وجهوا الكلام إلى سيدنا موسى، وجهوه إليه ولإلهه: "أنت وربك"، طيب وهارون لا يرونه، هم يرون الهرب لا الطلب. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.