سورة المائدة | ح 943 | 25| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وعند قوله تعالى على لسان موسى وهو يناجي ربه: "قال ربِّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، لمّا أن عُرض الجهاد على بني إسرائيل وعرض عليهم الطاعة وعرض عليهم التكليف وعرض عليهم أن يكونوا في معية الله سبحانه وتعالى صابرين على أمره، وعندما رفضوا وأبوا وتولوا وقالوا
له: "يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إننا هاهنا قاعدون"، التجأ موسى إلى ربه، وهذا شأن الدعاة إلى يوم. الدين عندما يخذلهم أقوامهم فالداعي يدعو قومه إلى الخير لا سلطان له عليهم، إنما هو يبلغ كلمة الله، وربنا سبحانه وتعالى يبين له كيف كان حال المرسلين الذين رضي الله عنهم وأحوالهم واصطفاهم وأيدهم
وقص لنا قصصهم من أجل أن نستفيد به إلى يوم الدين، فماذا فعل موسى عندما خذله. قومه كان يمكن أن يغير رأيه أن يعيد حسابه أن يترك ما كان عليه إلى خطة أخرى ولكنه لما كان متأكداً من الحق ولما اتخذه له قومه استمر ودام على دعوته وعلى مبدئه وعلى رأيه ما دام هو متأكد أنه من عند الله فلا يتنازل عنه أبداً ولا يستطيع أن
يكرههم إكراهاً لأنه لو أكرههم وخرج بهم مُكرَهين لولَّوا مدبرين وتركوه وحده في ساحة القتال. إذاً إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع. هذه الحكمة العربية هي حكمة للدعاة الذين يخالفهم أقوامهم ويخذلونهم ويتركونهم ولا ينصرونهم. وأول ما يفعله الداعي عندئذٍ أن يلتجئ إلى ربه وثانياً أن يتمسك. بمبدئه وثالثاً أن يرى ما هو مستطاع في حقه وحق من كان معه. قال ربي: أول شيء أعطِ الدرس
الأول: عندما تضيق بك أيها الداعي السبل وترى قومك قد خذلوك، فالتجئ إلى الله. لا تلتجئ إلى العنف ولا تلتجئ إلى اليأس ولا تلتجئ إلى الحيلة التي لا حيلة فيها وإنما... اللجوء إلى الله، قال ربي: هذا هو الدرس، أنني لا أملك إلا نفسي وأخي. هذا ثاني درس: ما استطاع إلا أنا وأخي فقط لا غير، ليس معنا أحد ينفع. ماذا يمكن أن يُفعل بنا؟ ربما لا ينفع شيء. خلاص، الأمر لله، الله غالب. طيب،
أتيأس أو تغير رأيك أو تُصاب في بعض الفرسان النبلاء في بعض الحضارات، عندما يضيق بهم الحال ويرون أنه لا أمل في تحقيق النتائج، يقدم بعضهم على الانتحار. حدث هذا في حضارات أخرى، لكن الهداية الربانية فرقت بيننا وبين القوم الفاسقين، وهيأت لنا من أمرنا رشدا. انظر إلى هذا الدعاء الجميل، يعني: يا رب وفقني فيما... أقمني فيه فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. ولما هم فاسقون لأنهم عصوا أمر الله سبحانه وتعالى. آية قصيرة تتحدث
عن التاريخ، لكن الهداية فيها هي أن تحولها إلى نفسك أنت، والهداية فيها كيف تعيش هذه الآية في عصرك وفيما أنت سائر فيه في طريق الله إلى الله، فلا بد عليك. اقرأ القرآن وعينك على هذا، لا أن تقرأه بأنه خبر عن بني إسرائيل أو أنه سب في بني إسرائيل أو أنه ينبغي علينا أن نُكِنَّ العداوة لبني إسرائيل لهذا الخلل الفظيع الذي فعلوه عبر القرون إلى آخر ما هنالك من مواقف، بل الموقف الصحيح: ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، ابدأ. بنفسك ثم بمن يليك.
الموقف الصحيح أن تجعل القرآن هداية لك لأنه هدى للمتقين، فلا بد أن تُدخل نفسك في دائرة المتقين. قال: "فإنها..." فأوحى الله إليه. قال: يعني قال ربنا سبحانه وتعالى إجابة لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". فتجد علماء... الوقف والابتداء والوقف والابتداء في القرآن مبني على المعنى وليس مبنياً على الرواية، يعني
لا توجد رواية عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول لنا متى نقف وأين نقف، بل كل هذه الوقوف التي وضعها علماء القرآن الكريم إنما جاءت من كلام المفسرين أهل الله وأهل القرآن أهل. العلم إذاً هو اجتهاد الأمة، ومن ضمن هذا الوقوف ما يسمونه بعلامة التعانق، حيث يضع لك ثلاث نقاط، وبعد كلمتين أو كلمة أو شيء ما يضعون ثلاث نقاط أخرى. ما معنى ذلك؟ معناه أنك إذا وقفت على الأولى فلا تقف على الثانية، وإذا لم تقف على
الأولى فقف على الثانية. قف على أحدهما، فإذا وقفت على الأولى فلا تقف على الثانية، وإذا لم تقف على الأولى فلابد أن تقف على الثانية. لقد سموا هذه علامة التعانق، ووضعوها هنا بعد كلمة "عليهم" وبعد كلمة "سنة". نقرأ على القراءة الأولى: "قال فإنها محرمة عليهم" - هذه وقفة - "أربعين سنة يتيهون في مدة التيه هي الأربعون سنة، والحُكم أن هذه الأرض محرمة عليهم. هذه
أول آية وقفة. حسناً، نريد أن نقرأ مرة ثانية بطريقة أخرى. قال: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". إذاً مدة التحريم هي الآية هي أربعون سنة. هل هذه الأربعون سنة هي مدة التيه أم مدة التحريم؟ في البداية تكون هذه مدة التيه، وإذا وقفت في الثانية تكون هذه مدة التحريم. حسنًا، قال: "فإنها محرمة عليه أربعين سنة يتيهون في الأرض". أنا متفق مع ذلك، وسأقرأها هكذا، ويكون معناها أنها محرمة عليهم وأنهم لن
يدخلوها، أو إذا دخلوها فسيكونون قد دخلوها في حالة الافتراء. محرمة عليهم وانتهى أربعون سنة يأتي هنا إلى الأرض ليس عليها مدة الازدهار أربعين سنة، فلا يكون له حق تاريخي ولا حق غير تاريخي. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.