سورة المائدة | ح 947 | 28 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط إليك، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني
أخاف الله رب العالمين. هذا كان جواب المقتول لأخيه القاتل قبل عملية القتل. الله سبحانه وتعالى حرم قتل النفس إلا بالحق، قال تعالى: "ولا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق"، وقتل النفس بالحق. هو إيقاف لتداعي القتل، يعني عندما نقتل بالحق نوقف
الفساد في الأرض ونوقف عملية استمرار القتل. فالقتل عندما يكون بالحق يكون قصاصاً، ولذلك فالقصاص يختلف عن قول الجاهلية "القتل أنفى للقتل"، فالقتل دائماً يكون أدعى لمزيد من القتل إلا إذا كان بالحق. والقتل بالحق يتصور في أمرين: أولهما الاعتداء والثاني... العدوان، أما الاعتداء فصورته القصاص، وأما العدوان
فصورته الحرب. فأجاز الله لنا أن ندافع عن أنفسنا وعن أوطاننا وعن ديننا وعن قضايانا، ولكن بشرط عدم العدوان، وبشرط أن نلقي بالسلام وبالسلم عندما يُطلب منا ذلك، وبشرط أن الحرب تكون وسيلة لا غاية، وبشرط أن تكون توقف الفساد في الأرض، لأن... بسطت إلي يدك لتقتلني، إذا عبر هنا باليد، وإن كان القتل محرماً بكل وسيلة، لكن اليد في
لغة العرب تُستعمل ويراد منها القوة. إذا تسلطت علي وبغيت واستعملت قوتك وجبروتك في قتلي، فأنا لن أحاول أن أفعل ذلك. وعلل ذلك فقال: إني أخاف الله رب العالمين، فخوف الله هو الذي يمنع الإنسان من العدوان ومن الاعتداء، وإذا لم يكن هناك خوف من الله فإن الإنسان يقوم بالاعتداء ويقوم بالعدوان، ولذلك فإن هذا القاتل من ابني آدم
لم يكن يخاف الله، ولو أنه استحضر عظمة جلال الله سبحانه وتعالى ما استطاع أن يقوم بذلك، والأهم من هذا أننا لو جعلنا برامج تربيتنا لأبنائنا خاليةً من خوف الله، ولذلك انتشر القتل وتهارج الناس فيما بينهم هرجًا شديدًا، والهرج هو كثرة القتل كما ورد في الحديث النبوي الشريف: "الهرج كثرة القتل". فالذي ينبغي أن نربي عليه الناشئة وأن نربي عليه أبناءنا منذ الصغر هو أن يخافوا الله في السر وفي العلن، وهذه
هي للأمن وإذا كان الإنسان لا يخاف ربه فإن الأمن يختل وسوف يحتال بعقله وتدبيره على كل القوانين والأعراف وعلى كل المبادئ والمصالح، لن يقف شيء أمامه في سبيل تحقيق شهواته ومراده عندما لا يخاف الله. ولذلك اكتشف هذا المعنى الفلاسفة الملاحدة. الملحد ليس لديه إيمان بالله فاكتشف أنه بذلك يصل الهرج والمرج في
المجتمع فبدأ عقلاؤهم ممن رأوا أنه إذا قلنا أنه ليس هناك إله وشاع هذا بين الناس فإن هذا يساوي انهيار المجتمع البشري والاجتماع الإنساني. يساويها على الفور لا يوجد إله، إذن لماذا أصبر عليك؟ ما دمت أنا قوي فلأقتلك الآن، لا يوجد إله، إذن... أنا أسرع ما في ذلك، لا يوجد ربنا ما أنا أفسد في الأرض، اكتشفوا ذلك حتى قال قائلهم: إذا لم يكن هناك إله، فلا بد علينا أن نعلِّم الناس أن هناك إلهاً، نضحك عليهم ونكذب. ما هو ليس همّهم الآن، ما هو ملحد فسيكذب
عليهم ويقول لهم: ماذا؟ هناك رب! فالله ضرورة اجتماعية، الله ضرورة اجتماعية. يا سلام! بعدما ألحد وأنكر، تبينت له حكمة نهاية هذه الآية. يقول: "ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين". فسبب الإحجام عن القتال ورد القتل بالقتل والبدء بالقتل واستباق القتل حتى لا يُقتَل هو أنه يخاف الله رب العالمين. فالخوف
من الله هو سبب الأمن، والخوف من الله إذا نُزع من القلوب نُزع الأمن من أوساط الناس. الله ضرورة اجتماعية، وهذا تجلي ربنا سبحانه وتعالى على هذا الكون أنه أرغم الملاحدة - وهم مطمئنون في عقولهم أنه ليس هناك إله - بأن يقولوا إن الله موجود وهو ينكر، فأصبح في قلبه حتى يدخل جهنم معترفاً به في واقعه، وذلك من جلال الله سبحانه وتعالى على قلوب العباد،
فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء، فسبحان ربي العظيم. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.