سورة المائدة | ح 949 | 30| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين". "طوعت له نفسه" أي إن نفسه دفعته وسوّلت له وزينت له أن يقتل أخاه، فطوعت نفسه والنفس منها ما هو أمَّارةٌ بالسوء "إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ"، ومنها
نفسٌ لوامة تعاتب صاحبها وتجعله مترددًا بعد فعل الذنب، ومنها نفسٌ ملهمة يُلهمها الله سبحانه وتعالى الطريق الصحيح، ومنها نفسٌ مطمئنة "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً"، ولذلك فمنها الراضية ومنها المرضية ومنها النفس الكاملة. قالوا إنَّ في النفوس سبعة أنحاء سبعة: النفس الأمارة، والنفس اللوامة، والنفس الملهمة، والنفس المطمئنة، والنفس الراضية،
والنفس المرضية، والنفس الكاملة. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء" - يعني إلى عصره - "إلا أربع"، وعدّ منهن مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، عليه عليها السلام وعليه الصلاة والسلام وخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها أم المؤمنين. فالحقيقة أن الكاملين من الرجال، إذاً توجد في النفوس كمالات تكتمل، وإن كانت في البشر قليلة، لكن
نسبتها في الرجال أكثر من نسبتها في النساء، وذلك لصفات تتمسك بها النساء. فإذا تخلت المرأة عن الصفات وسعت قلبها للعالمين وامتنعت عن الغيبة والنميمة ورتبت أولوياتها مرة أخرى ترتيباً آخر يتسق مع أوامر الله سبحانه وتعالى. تكمل كما كملت نساء الأولين، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يشير إلى أن الإنسان يكمل وأنه قد يصل إلى مرتبة الكمال. وصل إلى مرتبة الكمال الأنبياء. ووصل إليها الصديقون
ووصل إليها الشهداء ووصل إليها الصالحون ووصل إليها العلماء ووصل إليها الأتقياء ووصل إليها أهل الله وأهل القرآن الذين اشتغلوا بحمل هذا الدين لمن بعدهم ووصلوا إليها أولئك الذين لم يريدوا فساداً ولا علواً ولا طغياناً في الأرض ووصلوا إلى الكمال كثيراً إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فطوعت له نفسه. تُعد هذه من النفس الأمارة بالسوء. والنفوس السبعة غاب تدرجها
عن كثير من الحضارات غير الإسلام. في الإسلام التفت المسلمون إلى تنوع الناس، ولذلك كتبوا في مراتب النفس وفي صفاتها وفي كل مرحلة، ولم يجعلوا غاية الإنسان النفس الأمارة بالسوء، بل... وصفوها وأمروا الإنسان أن ينتقل منها إلى النفس اللوامة ثم النفس الملهمة، ولكن هناك في حضارات أخرى نظروا إلى النفس الأمارة بالسوء على أنها هي النفس الإنسانية الأصيلة، فأمروها أن تبقى كما هي وسهّلوا لها كل ما
يُدخل الانبساط والسرور عليها، فماذا كانت النتيجة في النهاية؟ الاكتئاب وأمراض النفوس كلها. وأمراض المجتمع كلها ثم الانتحار في نهاية المطاف بعد أن ييأس من القلق الذي يصيبه. فرويد وصف النفس الأمارة بالسوء خير وصف. وعندما نتحدث إليه نقول له: انتبه يا فرويد، نحن متفقون معك مئة في المئة، ولكن في ماذا؟ في الوصف وليس في العلاج. أنت وصفت النفس أنها قد... زُيِّنَت لها الشهوات، أجل، فربنا قال هكذا: "زُيِّن للناس حبُّ الشهوات"، ولكنك أمرتَه أن يفعل هذه الشهوات بلا ضابطٍ
ولا رابطٍ، ونحن لا نأمره بذلك، بل نقول له: "والنفس كالطفل، إن تهمله شبَّ على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم"، فحاذر النفس والشيطان واعصهما، وإن هما محضاك النصح فاتهمهما ولا تطعهما. منهما خصماً ولا حكماً فأنت تعلم كيد الخصم والحكم. وقفوا مع النفس يقول: "ما أنا أعرف أنها تأمرني بالسوء، وأنا أعرف أنها تجعلني أفكر تفكيراً غير صحيح، ولكن أترك نفسي هكذا". فرويد يقول له: "نعم، لكي ترتاح"، لكن هذا ليس طريق الراحة، ولكي تسعد، فهذا ليس طريق السعادة لأجل... تنطلق،
هذا ليس طريق الانطلاق، هذا الذي حدث بعد ذلك أنني اصطدمت بخلقة الله في فطرته. فكثير مما صار في هذا أن يأتي لشخص اكتئاب، فيقول له: حسناً، تعال وسأعطيك حبوباً للاكتئاب لكي تزيد الدم في مخك، فتصبح هكذا، أي ترى الدنيا جميلة، فأدخله في دورة إدمان واصطدم. في النهاية مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إنما أنا عندما قلت له: "لا تستسلم، قاوم نفسك، اعصها، افعل كذا، قم"، يجد حلاوة ذلك في قلبه ويبدأ ينتقل من خطوة إلى خطوة، وتجادله نفسه مرة أخرى فيقاومها، فينال ثواباً
ويشعر بلذة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في شأن... غض البصر ويقول النظرة الأولى لك والثانية عليك، مَن الذي لا يريد أن يغض بصره؟ هذه خاصية متأصلة في الفطرة البشرية، ولكن آخر يقول له: لا يهمك، لماذا تحرم نفسك من الجمال؟ انظر وأرح نفسك، حدق. والآخر يقول له: لا، غض البصر. الفرق بين المنهجين أن كليهما قد اعترف بالنفس. الأمارة، لكن هذا وصف العلاج بالتفلت، وهذا وصف العلاج بالالتزام، فتنبه فإنه يشكل على كثير من الناس.
وهذا هو مدخل من المداخل التي يختلف فيها المسلمون مع غيرهم. والآخر يقول لك: يا الله، ما أشد ما أنت عليه! لماذا ستخنقوننا؟ دعوها هكذا حرة كمنهج، ولكنه منهج يصطدم مع الفطرة الربانية. ويصطدم مع أوامر الله ومع مراد الله في خلقه ومع المنظومة بأكملها، والآخر يلتزم "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ"، أبداً "لا يخلون رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"، والآخر في هذا يكتب ويسخر من هذه الأمور ويستهزئ بها، لماذا؟ لأنه لا يريد تكليفاً، ولكن التكليف هو في الحقيقة...
للإنسان تشريف يريد أن يجعله إنساناً، والثاني يريد أن ينظر إلى جانب الحيوانية فيه. نعم، صحيح أن الإنسان كالحيوان في الحركات اللاإرادية، تجد الحيوان فيه دم ودورة دموية وقلب وكلى وكبد وكل شيء، والإنسان كذلك أيضاً. ولكن الإنسان تميز بعقل يعقله، وماذا يعني يعقله؟ يعني يحبسه، وماذا يعني ذلك؟ يعني يلجمه وذلك كي يصبح إنساناً يُعطي فرصة للروح أن تتدرج في مدارج السالكين إلى رب العالمين. فطوّعت له نفسه قتلَ أخيه فقتله.
لم يتوقف ويقول لا، شهوة القتل التي لديّ هذه لا بد أن أوقفها، فأصبح من الخاسرين لا من الفائزين ولا الرابحين ولا من الناس. الطيبين لأنه سنَّ سُنة سيئة وسوف يتحمل وزر كل قاتل إلى يوم القيامة. فالقضية ليست أنه خسر منفعة فحسب، بل أصبح من الخاسرين. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله