سورة المائدة | ح 950 | 31| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. من المتقين: "ما انبسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين". فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. يقصُّ علينا ربنا سبحانه وتعالى القصص في شأن أول جريمة هدم. فيها بُنيان
الرب، أول جريمة عنف قُتل فيها الإنسان أخاه الإنسان. قال تعالى بعدما حكم على هذا القاتل بالخسران المبين: "فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه"، حيث أن هذا القاتل لم
يرَ دفنًا من قبل، لا شخص مات أمامه ولا عرف كيف يتصرف في جثمان. الإنسان بعد مفارقة الروح له، وهذا دلّ على أن هؤلاء أولاد آدم مباشرة، واتلُ عليهم نبأ ابني آدم، أن هؤلاء كانوا أولاد صلب لآدم، وما زال آدم يعيش وحواء تعيش وأبناؤهم يعيشون. ورد في القصص أن آدم عُمِّر، وأن هؤلاء في العصور الأولى كانت أعمارهم كبيرة، وحكى الله لنا عن نوح أنه مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فالأعمار كانت
طويلة، فإذاً من المرجحات أن هذا الإنسان القاتل كان ابن آدم عليه السلام مباشرة، وليس من أولاد آدم بعد ذلك بأجيال بعيدة، لأنه لو كان كذلك لما رأى الموتى ولا عرف كيف يتصرف معه، لكن فظاعة الأمر أنه كانت هذه الضحية بالنسبة للقاتل على الأقل أول حالة وفاة يراها، وكان هذا القاتل لم يرَ الموت من قبل، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: "فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْءَةَ أَخِيهِ"، أي يُعلِّمُه كيفية الدفن، وأصبح الناس جيلًا بعد جيل يتعاملون مع الموت بالدفن. إلى أن ظهرت مذاهب اقترحت أن يُحرق الجثمان ويُدفن في صورة رماد في بعض الأديان الشرقية، إلا أن عموم البشر على مر التاريخ عرفوا أن الإنسان قد خُلق من هذه الأرض "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
نخرجكم تارة أخرى"، وأن الأرض هي أمنا، ولذلك فادفنوا فيها إلا إذا كان هناك عائق كفقدان الجسد بحادث أو بغرق وأكله السمك أو بنحو ذلك، ولكن الأصل في التعامل مع الموت الإنساني هو الدفن، والإنسان إذا لم يُدفن فإن جسده يتغير، وحينئذٍ تخرج منه رائحة غير طيبة، والإنسان مكرم عند الله "ولقد كرمنا بني آدم"، ولذلك سمى
الله سبحانه وتعالى الجسد بعد مفارقة الحياة. يتعلق باسم السوءة سوءة أخيه، أي عندما كانت السوءة هي أنه كان يرتدي ملابسه. هذه السوءة قد يكون معناها عورة، لكن لا، فهو لم يكن عارياً، ولو أراد أن يستر عورته لسترها بثيابه. لكن السوءة هنا هي تغيُّر الجسد وخروج رائحة كريهة منه، وهذا لا يتناسب مع كرامته والتكريم الذي له إذا فالحقيقة الأولى أن الإنسان من الأرض منها
خرج وإليها يعود فكانت الأرض أولى به من غيره. الحقيقة الثانية أن الدفن يستر سوءة ابن آدم. الحقيقة الثالثة التي عرفها الإنسان بعدما جرب تجربة الموت أن هذا الجثمان يتحول إلى تراب الذي هو الأصل الذي خُلق منه، فبعث الله غراباً. أي أرسل الله غراباً، والغراب معروف أن لونه أسود، ولذلك كان هذا فيه رمز لجعل السواد علامة على الحزن عند غالب البشر، العلامة
كانت سوداء، والغراب صوته كريه وكأنه علامة على أن الموت مصيبة فأصابتكم مصيبة الموت، والغراب ليس مما يرتاح إليه الإنسان، يعني ليس كالكروان ولا العندليب ولا العصفور. وليس كذلك أي شيء جميل يشرح صدر المرء لصوتها أو لمنظرها، بل إنه في الحقيقة لا يبدو منظره مريحاً للخاطر. إذاً، فاختيار الغراب إشارة إلى عظم الجريمة،
وأنه سيتعلم من مخلوق تنفر الطباع منه، لا في صوته ولا في شكله ولا في منظره ولا في فائدته. فما فعلته جريمة أيها وسوف نرسل إليك من يعلمك على قدر هذه الجريمة في السوء. يبحث في الأرض، وعندما يبحث الطائر في الأرض فهو يحفر لأنه يبحث عن شيء يأكله أو غرض يقوم به. فيبحث في الأرض معناها أنه يحفر في الأرض ليُريه كيف
يواري سوءة أخيه. وهنا يذكرنا هذا الحال بحال المؤمن. الذي يريد أن يتعلم فإنه يطلب الحكمة، لا يضره من أي وعاء خرجت. أين العلم؟ لا تقل لي إن هذا الشخص لا يعجبني، لا يصح، لابد أن تطلب العلم لأن الله سبحانه وتعالى جعل الغراب الذي تنفر منه الطباع معلماً للإنسان. فتعلم، وعندما تتعلم،
تعلّم من كل أحد، ولذلك قال لا تصل إلى مرتبة الرجال في الحديث إلا إذا رويت عن من هو دونك ومن هو مثلك ومن هو فوقك. فلا بد من أن تتعلم ممن هو أكبر منك وممن هو في سنك وممن هو أقل منك. ولا يزال العبد يتعلم مع المحبرة إلى المقبرة ومن المهد إلى... اللحد، فإذا قال تعلمت فقد جهل. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.