سورة المائدة | ح 955 | 32| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ" يعني من أجل ما حدث بين ابنيْ آدم من قتلٍ بظلم "كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ". أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، وهنا يُقرّ ربنا سبحانه وتعالى ويعلّمنا رسوله صلى الله عليه وسلم أمرين: الأمر الأول
تكوين عقل المسلم وحقيقة شريعة الإسلام أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، إذاً ليس هناك خطيئة موروثة، فكل واحد معلّق من رقبته ونُخرج له كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك لا كتاب غيرك ولا كتاب أخيك ولا أبيك ولا جدك، كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا. يقول: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم
عليك حسيبًا". قاعدة تجعل المسؤولية مباشرة محددة شخصية لا تنتقل إلى أخيك ولا تنتقل من أبيك ولا من جدك ولا إلى أبيك وجدك، كل واحد يُؤاخذ بما فعل. هذه القاعدة لا بد أن تستقر في الذهن عند فهم النصوص. فعندما نفهم هذا النص الذي معنا، نفهمه من خلال "لا تزر وازرة وزر أخرى"، ولا نناقض به "لا تزر وازرة وزر". أخرى، لا نتناقض. ممنوع أن نناقض
الكتاب بالكتاب، بل يجب أن نفهم الكتاب بالكتاب. تضع على عينيك هكذا نظارة تقول فيها العبارة الخاصة بها: "لا تزروا فيزرقوا ويزرقوا". فإذا كان فعلك مسجلاً عليك في نفسك، فأنت فعلك، هو هذا. فإذا كان ابن آدم الأول عندما قتل أثم وتركب عليه اسم، من الدرجة الأولى كبيرة سببت الخسران والندم. نعم سببت الخسران والندم، لكن
احذر أنت الآن أن ترتكب نفس الخطأ، لأنه بعد كل هذا التاريخ تبين لنا شرعاً وتبين لنا وضعاً وتبين لنا عرفاً وتبين لنا بكل طريق للبيان أن القتل فساد. ابن آدم الأول لم يكن يعرف كل آدم الأول غضب وقتل. سمع الكلمة أول مرة، ربما كان عقله مشوشاً، ولم ينتبه إليها: "إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار". لم
ينتبه إليها، هو فقط تلقى البلاغ. لكن انتبه أنت، فعندما تولد وهذه الكلمة تتردد عليك كل حين، فأنت مختلف عمن سمعها أول مرة، ومن أن عرفنا أن الذنب شخصي لا يتعداك وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولكن نعرف أن ذنب القتل بالنسبة إليك من أكبر الكبائر، فأنت سترتكب جريمة الآن فظيعة جداً، وستأخذ إثماً ليس من الدرجة الأولى بل من الدرجة المليون، لأنك ستقتل
الناس جميعاً، وكأنك قتلت الناس جميعاً، يعني أنت... قتلت شخصاً واحداً ولكنك اعتديت على فكرة الحياة التي أرادها الله، فكأنك قتلت الستة مليارات، فيبقى عليك ستة مليارات إثم. حسناً، أين أنا؟ أنا لم أرتكب هذا الإثم. لا، إن إثمك يساوي ذلك. هل يوجد شخص زائد؟ هذه لفتة يجب أن تفهمها، أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولكن في الوقت في شيء
آخر وهو أن الجريمة في حقك كبيرة جداً بقدر وضوح مفهوم القتل عندنا في زمننا حيث إننا جربناه فوجدناه أنه فساد كبير وأنه يخل بالاجتماع البشري، فالتجرؤ عليه تجرؤ على شيء يخالف مراد الله فكأنما قتل الناس جميعاً. هذا ترهيب في المقابل، ومن أحياها، وهنا كلمة
أحياها... جاءت على سبيل الحقيقة والمجاز، حقيقتها أنَّك ساعدت في إحيائها كما لو ربَّيت ابنك، فتكون هذه التربية حجاباً لك عن النار، كما لو أنَّك أنقذت إنساناً من الموت أو الغرق أو الحريق. ولذلك رجل المطافئ هذا هو أعلى أنواع الفرسان النبلاء، أعلى أنواع الفرسان النبلاء، وتجد عندما يكون الصبي
الصغير تسأله في البلاد التي احترمت الإنسان وفهمت ما الإنسان، عما يطمح إليه، فيقول لك: رجل إطفاء. فإن هذا أعلم من الطبيب وأعلم من السياسي وأعلم من كذا وكذا. رجل الإطفاء يضحي بنفسه ويعرض نفسه للخطر. الإحياء هنا حقيقي لأنك أنقذت حياته من الغرق أو من الحريق أو من غير ذلك. ربَّيتَهُ أو جدَّتُهُ وربَّيتَهُ الذي هو ابنُكَ أو كَفَلْتَ اليتيمَ إحياءٌ حقيقيٌّ، إنقاذٌ مِنَ الموتِ الحقيقيِّ أو الموتِ المعنويِّ. ومجازُها: هذه حقيقتُها إحياءٌ، مجازُها أنَّكَ تتركُهُ
ولا تقتلُهُ. أتنتبهُ أنَّكَ أنتَ تتركُهُ؟ فهذا إحياءٌ مجازيٌّ لأنَّهُ في الحقيقةِ لستَ أنتَ مَن أحييتَهُ، أنتَ امتنعتَ عن الأذى. الحقيقةُ أنَّكَ أنتَ... لم تنقذ حياته، إنما أنت لم تتسلط عليه بالفساد والقتل، فيكون هذا مجازاً. هل يجوز استعمال الكلمة الواحدة في الحقيقة والمجاز معاً؟ فالإمام الشافعي يقول: نعم. الإمام الشافعي، إمام أهل اللغة، يقول: نعم، يجوز استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز. معنى "أحياها" يكون لها معنى حقيقي ولها معنى مجازي، وأن
ربنا... يمكن أن يريد في هذا الموطن الحقيقة والمجاز معاً، ما يحدث شيء. قلنا له: حسناً، ما هو الدليل يا فضيلة الإمام الشافعي؟ ما الدليل؟ قال: قوله تعالى "إن الله وملائكته يصلون على النبي". وبعد ذلك قال: ما خلاص، لقد ذكرت لكم الدليل. حسناً، نريد أن نفهم أن الله، دعونا نحللها يصلي على النبي يعني ماذا؟ يصلي: يرحمه، يُعلي قدره، لأن هذه هي الصلاة من الله. هكذا الصلاة في حق الله أنه يرحم النبي، أنه يستجيب لدعائه،
أنه يكرمه، أنه يعطيه. هكذا يعني شيئًا يليق بجلال الله، لئلا يظن الناس أن ربنا يقف يصلي للنبي أو عنا، هذا لا يصح، ليس الأمر كذلك، بل نحن الذين نصلي لله أن الله يصلي على النبي، والملائكة تصلي على النبي. ماذا تعني تصلي؟ تعني تدعو: يا رب بارك في محمد، يا رب ارحم محمداً، يا رب أَعْلِ شأن محمد، يا رب أعطِ محمداً. محمداً. الصلاة هكذا ما هي؟ صلاة الملائكة تكون مختلفة عن صلاة ربنا، فيجوز استعمال لفظ واحد في معنيين مختلفين. ما
معنى أن الله وملائكته يصلون؟ أصبحت كلمة "يصلون" هنا تعني يرحم ويدعو ويطلب الرحمة، يرحم ويطلب الرحمة. قلنا له: كفى يا فضيلة الإمام الشافعي هذا. من قبيل المشترك، وليس من قبيل الحقيقة والمجاز. قال: "إذا صح في المشترك، ففي الحقيقة والمجاز أولى". هل تنتبه كيف؟ انتظر قليلاً. إذا صح في المشترك، إذا كان المشترك يصح، فيكون في الحقيقة والمجاز أولى منه. إذن هو قد أتى لنا بالشيء الذي لم أستطع أن أتكلم بعده في. الشيء الثاني: فما دام صحيحًا
في الاشتراك، يصح في الحقيقة والمجاز، ويكون أولى. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.