سورة المائدة | ح 956 | 32| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما". أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون. وهنا وفي قوله تعالى "ولقد جاءتهم رسلنا
بالبينات" بيان لفضل الله ورحمته، وأن الله سبحانه وتعالى ينبئنا عن صفة من صفاته تستوجب منا الشكر الجزيل والحمد الكثير، وتستوجب منا ألا نكون مثل العبد النكد. الغبي الذي لا يعرف كيف يتعامل مع مولاه في هذه الآية "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات"، فيها
أن الله صبور وأنه يرسل رسولاً بالبينة فيجد المعصية مستمرة، فيرسل رسولاً آخر بالبينة فيجد المعصية مستمرة، فيرسل ثالثاً بالبينة قبل أن يؤاخذ أو يأخذ، فهو صبور ومن أسمائه الحسنى الواردة في حديث أبي. هريرة رضي الله تعالى عنه في تعدادها في سنن الترمذي وآخر اسم الصبور وهو صبور سبحانه وتعالى لأنه لا ينال ولا يناله ضر
ولا نفع من البشر يعني لا تستطيع أن توقع الضرر بالله رب العالمين هو يوقع الضرر بك ولكنه أيضًا يوقع النفع فهو الضار والنافع سبحانه وتعالى لكن أنت تضر نفسك، قال تعالى: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، ولا نستطيع أن نظلم الله سبحانه وتعالى لأنه ليس لنا في الحقيقة تصرف في ملكه وفي ملكه إلا من بعد إذنه، ولذلك فلا يمكن أن نظلم ربنا، وهو سبحانه وتعالى من كرمه وفضله لا يظلمنا ولا يتصور ذلك لأنه. يتصرف في ملكه وكل المصائب التي يراها
الناس في أبنائهم أو في أنفسهم أو في صحتهم أو في أموالهم إنما هي من حكمة الله سبحانه، لا يوصف أبداً إلا بالعدل ولا يواجه أبداً إلا بالحمد، فنقول الحمد لله على كل حال، عندما تصيبنا مصيبة نقول الحمد لله على كل حال. فهو يستحق الحمد في السراء وفي الضراء، في المنشط وفي المكره، سبحانه وتعالى. ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات. لما تعددت الرسل تعددت معها البينات، فكل رسول أرسله الله إلى قومه بلسانهم، ليس فقط بلغتهم، بل أيضاً بتكوين عقولهم، بثقافتهم،
بعاداتهم، بما هو شائع فيهم من نظام أخلاقي واجتماعي، فتعددت البينات والطرق. بعضها كان في صورة المعجزة الخارقة للعادة، وبعضها كان من قبيل البرهان والخطاب العقلي، وبعضها كان من قبيل لفت النظر إلى النتائج السيئة للمعصية أو إلى النتائج الطيبة للطاعة، وبعضها كان بالتعقل والتفكر والتدبر في شأن النفس والكون والحياة وما قبل ذلك وما بعد ذلك، وبعضها كان في صورة كتب أُنزلت تأمرهم بالمعروف وتنهاهم
عن المنكر وتخرجهم من الظلمات، وبعضها كان على سبيل استجابة الدعاء وعلى سبيل النصرة والتأييد. اختلفت البينات ولكن القلوب القاسية تصم وتعمى ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم... وكلمة "ثم" تدل على شيء غريب عجيب وهو أنهم قد استمعوا إلى هذه البينات وأنهم... استقرت هذه البينات
في عقولهم وأنهم تفكروا فيها وأنهم عرفوا أنها من جنس البينات. اعلم أنه لو قال "وكان" لما كان هناك مشكلة، لكنه يقول "ثم"، و"ثم" هذه تدل على الترتيب مع التراخي. فيكون المعنى: لقد جاءتهم رسلنا بالبينات، وبعد فترة، بعد فترة من مجيء الرسل، وبعد فترة من البينات، وكذا حسناً، ماذا حدث في هذه الفترة منذ أن جاءت الرسل بالآية التي ستحدث بعد ذلك؟ إذاً، هناك فترة، ماذا حدث فيها؟ لقد سمع الرسل البينات، ودخلت في قلوبهم وعقولهم، فأصبحوا في دائرة العلم
بها. إذاً عندما جاءتهم البينات لم يستطيعوا أن يردوها وعرفوا. بها وصدقوا واستقرت نفوسهم وأيقنت، ثم إن كثيراً بعد ذلك وبعد فترة نرى كثيراً منهم أيضاً. نقف عند كلمة "كثير منهم" هذه، ما معناها؟ معناها أن بعضهم استمر على الإيمان. وهنا نتعلم - إذا تأملنا الآية الثانية والعاشرة بعد المائة - إذا ما تدبرت القرآن يعلمك الإنصاف، يعلمك قاعدة
ذهبية. في التفكير المستقيم أن التعميم يحمل في ذاته خطأً. احذر أن تقول الغرب سيئون، واحذر أن تقول هذه الكلمة. ربنا دائماً نبّهنا أننا قلنا "ثم إن كثيراً منهم" وليس كلهم. احذر أن تقول الناس طيبون، فليس من المعقول أن يكون الناس كلهم طيبين. إذن أين "دفع الله الناس بعضهم ببعض"؟ والشر والمعصية والطاعة، كن منصفًا واصفًا للواقع كما هو، هذه الأمور افتقدناها في خطابنا. افتقدنا
هذا الوصف المنصف، فإما أن نقول إن كل الناس سيئون، أو كل الناس طيبون، ومن ليس معنا فهو علينا. هذا التفكير أتعب الدنيا، وهذا التفكير أراق الدماء في الطرقات، وهذا التفكير اعتمد عليه الإرهاب لتسويغ هذا التفكير الذي هو أخذ العاطل بالباطل هكذا تفكير سيء، ولكن العجب أنه يكاد في كل ثلاث أو أربع آيات ينبهك: احذر أن تفعل هكذا. طيب، الإصرار والتكرار هذا لماذا؟ لأنه يبدو من الصعب أن تُعلِّم الإنسان وتجعله يقتنع بهذا،
ولذلك أكثر منه لأنه يصف لنا الإنسان المنصف. كثيرون يقرؤونها ثم إن كثيراً منه خالصاً، كثيراً منه يريد أن يرى ما الذي حدث بعد ذلك، ولا يتوقف. لا يتحول القرآن إلى كتاب هداية إلا إذا قرأته حرفاً وسرت معه هكذا، تعيش معه حرفاً ثم تتوقف عند "ثم" هكذا وتفكر: كيف شكلها؟ "أن كثيراً منهم" أيضاً تفكر في "أن منهم، حسناً، الذين ليسوا كثيرين، ماذا فعلوا؟ استمروا في الإيمان بعد ذلك. كلمة "بعد ذلك" ترشح وتؤكد الفترة التي كانت بين مجيء الرسل
بالبينات وبين مخالفتهم بعد أن استقر الإيمان في قلوبهم. "في الأرض لمسرفون". وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.