سورة المائدة | ح 957 | 33| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون". وهنا ينعى الله سبحانه وتعالى على الإسراف وعلى المسرفين، نتذكر قوله. قال تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"،
والإسراف هو نوع من أنواع الخروج عن الحد الوسط والاعتدال. في الإسراف في الأكل أو في الشرب، أي فعل هذا الشيء - وهو الأكل والشرب - كثيراً. إذاً، فهؤلاء الناس بعدما الأرض أسرفوا في المخالفة أي أنهم قاموا بفعل المخالفة مرات كثيرة بكميات
كثيرة ومستمرة ومؤثرة، أي إسراف، أي إسراف يعني أي نوع من الإسراف، كل الأنواع. كنا نتكلم قبل ذلك في أول الآية عن القتل، إذاً فأسرفوا في القتل، قتلوا بحساب وبغير حساب، قتلوا بحق وبغير حق، قتلوا المجرمين وقتلوا. الأنبياء قتلوا من قتل قصاصاً، وقتلوا من أخذ منه شاةً، أو من نظر إليه نظرةً، أو من فعل
وفعل. أسرفوا في القتل حتى أصبح القتل شيئاً معتاداً. وهذا الشيء يذكره الآن علماء النفس: إنك تستعظم القتل ولا تستطيع أن تقتل، فإذا قتلت أول مرة فُتحت شهيتك الخبيثة على القتل وحدث. لديك شيء تتمنى لو أنك قُتلت مرة ثانية، هذا شيء ينبع من الداخل هكذا، ليس بمعنى أن تنهار، لا، بل يحدث لك شرف
في القتل، ولذلك يرشح ذلك المعنى المستفاد من قوله تعالى: "فكأنما قتل الناس جميعاً"، يعني هناك قتل بالفعل وهناك قتل بالقوة، وأنت الآن أصبحت آلة مدمرة قابلة تقتل الناس جميعاً ولذلك فهؤلاء الناس تراهم سيسرفون في الأرض والإسراف يولد الإسراف حتى يصل الأمر إلى شعور يشبه الإدمان، ونلاحظ
في الإدمان أن من يشرب الخمر ويصل إلى حد الإدمان لا يستطيع التوقف، فإن شيئاً من داخله يدعوه للاستمرار في هذا البلاء حتى يبيع ممتلكاته وهو سائر في غيه. ويترك أهله للضياع وهو سائر في غيه، ويُطلب منه من أجل كأس من الخمر أن يخالف كل المخالفة وهو مستمر في غيه، حتى ورد أثر الخمر أم الخبائث لأنها تسبب الإدمان. رأينا هذا في من أدمن والعياذ بالله على القمار، فلا يستطيع
أن يوقف نفسه، ودائماً على أمل موهوم بأن وهو في خسران مبين حتى يخرج من ملكه ومن أهله ومن نفسه، وحتى وجدنا بعضهم يجلس على الأرصفة والطرقات وهو ما زال وفي دمه القمار المميز، لا يستطيع أن يتوقف. هذا سرف، وجدنا السرف في الأكل والشرب، وكلما ازداد أكلاً ازداد وزناً، ويعرف أن هذا يضر بصحته ويضر بحياته فلا. يستطيع أن يتوقف، والأكل والشرب ليس فيهما إدمان من نوع إدمان المخدرات أو الخمر، ولا من نوع إدمان القمار، ولا من نوع إدمان القتل. كل
هذه أنواع مختلفة، ولكن جمعها الله سبحانه وتعالى بكلمة من لغة العرب تفسر هذه الحالة التي يفقد الإنسان فيها سيطرته على نفسه ويكون سادراً في... ذنبه بالسرف والإسراف المسرفي، إذا هذه كلمة فيها معنى الخروج عن الحالة المعتادة، وفعلاً هذه الحروف الثلاث: السين والراء والفاء تدل على حالة من الخروج وحالة من
الانفتاح، ينفتح فيفعل ما يشاء، لأن منها سفر، والسفر معناه الخروج، وامرأة سافرة يعني كشفت وجهها، أي أسفرت عن. وجهها الكشف والخروج هكذا، وفسر أي شرح وفتح مغاليق الكلام يقول لك الفاء والسين والراء فيها نوع من أنواع الخروج. كانت هناك أشياء في الداخل وخرجت إلى الخارج، وعندما خرجت إلى الخارج لم تكن منضبطة، بل خرجت وانطلقت وتدحرجت. حدث فيها شيء غير
متحكم فيه، وهذا عدم التحكم موجود في من هذه الحروف الثلاثة "إذا" ثم "إن" كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون. ولم يعين جهة إسرافهم، وكلما قلت القيود كثر الموجود، فلا توجد قيود هنا. مسرفون في ماذا؟ في القتل وفي الأكل وفي الشرب وفي الطغيان وفي الفساد. وكلمة جامعة لأنها عبرت بكلمة واحدة على الإطلاق وليس... على التقييد "إنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ". في هذه الآية حكم ما سُمي في الفقه الإسلامي بالحرابة. جاءت هذه الكلمة من قوله تعالى الذين يحاربون الله ورسوله ويقطعون الطريق بقوة السلاح والعدوان على الأنفس وعلى الأعراض وعلى الأموال يُعَدّ
من محاربة الله ورسوله، لأن الله ورسوله وضعا أسس الاجتماع البشري، ولأن قطع الطريق ضد الاجتماع البشري، ولذلك فإن من قام بالحرابة بقطع الطريق بالعدوان على النفس والعرض والمال فإنه يكون بذلك. محارباً لله ورسوله، والحرب لله ورسوله تقتضي أمرين: الأمر الأول العقاب والجزاء الأخروي، والأمر الثاني المقاومة الواجبة على جماعة المسلمين لتأمين مجتمعهم وتأمين أفرادها وأفراد الأمة بأسرها. ولذلك
فالحرابة باب كبير من أبواب الفقه الإسلامي يجدر بنا أن نخصص له وقتاً مناسباً. فإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة وبركاته