سورة المائدة | ح 958 | 33| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقرر ربنا سبحانه وتعالى عقوبة للمفسدين في الأرض، والعقوبات في الإسلام إنما شُرعت لردع الناس عن الفساد في الأرض. ويُعد كل فعل يضاد ويعادي وينقض ويكر على مراد. الله بالبطلان يعد فساداً في الأرض، فربنا سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وخلق
فيه الإنسان وكرمه وأسجد له ملائكته من أجل أمور ثلاث: الأول عبادة الله "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، والثاني عمارة هذا الكون على مراد الله، وربنا سبحانه وتعالى من أجل ذلك أمرنا بكل معروف ونهانا عن كل منكر أمرنا أن نزرع هذه الأرض وألا نفسد فيها وألا نحرق أو نغرق المحاصيل التي تنفع الناس، ولذلك لن نرى من تصرفات المسلمين أنهم
ألقوا محاصيل الزراعة في البحر من أجل الحفاظ على الثمن أو على مستوى الأسعار. لم نجد المسلمين يحرقون المكتبات أو يحرقون كتب العلم، لم نجد. المسلمون أبداً لا يضطهدون الشعوب ولا يستعبدونها ولا يستعمرونها ولا ينقلون ثمارها إلى المبدأ إلى الحجاز حتى تصير مزدهرة، فلم يكن هناك استعمار، بل إنها زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. لم نجد المسلمين وهم
يفرقون بين خلق الله، بين أسودهم وأبيضهم. لم نجد المسلمين يفعلون ما فعله البشر مناحٍ كثيرة لأنهم فهموا عن الله سبحانه وتعالى مراده من خلقه في عمارة كونه، والثالثة هي تزكية النفس، "ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". يعني التزكية هي ركن من أركان مراد الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ثم أنشأ العقوبات من أجل ردع الناس وليس من أجل
الانتقام ولا من أجل إيقاع الأذى بالناس، فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤذي أحداً، بل إنه هو الرحمن الرحيم. وجَّهنا بذلك في بداية الكلام بسم الله الرحمن الرحيم، فالخطاب بدأ بالرحمة وانتهى بالرحمة، ولذلك فكلامه سبحانه وتعالى مغلَّف كله. بالرحمة حتى أنه إذا ما ذُكِرَ العقاب بين مراده فيه وقال ذلك يُخَوِّفُ الله به عباده: "يا عبادي فاتقون". فالغرض ليس الأذية ولا إيقاع الألم بالناس، فإن الله لا يتشهى - جل جلال الله عن ذلك - أن يوقع
الأذية بالناس، فإنه هو الرحمن الرحيم. إنما جل جلاله يمنعنا من في الأرض وأن نضيع مراده من العبادة والعمارة والتزكية، ولذلك فالعقوبات في الإسلام أساسها الردع عن الجريمة. إنما نقيمها بعد وقوع الجريمة حتى تكون نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين، من أجل الحماية، من أجل الرعاية، من أجل العناية، وليس من أجل الانتقام والتشهي. كثير من الناس... عندما يفتقدون هذا الأساس يستعظمون العقوبة في الإسلام ويبدؤون
في كلام معناه أنهم أرحم بعباد الله من ربهم وهذا خطأ بَيِّن وغلط واضح وهذا قلب للحقائق وإنما الأمر على ما ذكرناه فإن الله سبحانه وتعالى له مراد وهذا المراد هو خير كله والعقوبات للحماية ولكي تكون مثالاً وموعظة ورادعاً من أجل العناية والرعاية بالإنسان وبمجتمع الناس في هذه الآية التي معنا الآن نوع من هذا التنظيم العقابي الذي أدى إلى الأمن والأمان وإلى تحقيق مقولة النبي المصطفى والحبيب المجتبى عندما اشتكوا له كما
أخرج البخاري أذية المشركين له في مكة وكان متكئاً على بردة عند الكعبة المشرفة وكانوا يستظلون بظل الكعبة تبركاً بها، فجاءته الصحابة الكرام وقالوا له: "يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقد بلغت أذية المشركين منا مبلغاً". فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إني رسول الله، وليصدقن الله، ولينشرن الله هذا الأمر، حتى تسير الظعينة من صنعاء إلى حضرموت لا". تخاف إلا الله والذئب على غنمها، الظعينة
المسافرة. والمسافرة جمعت بين ضعفين: ضعف المرأة الذي خلقه الله سبحانه وتعالى فيها من أجل رعاية الطفل ومن أجل أن تخرج منها الحياة، وضعف السفر الذي يشترك فيه كل إنسان رجلاً كان أو امرأة. هذه الظعينة تسير من صنعاء إلى حضرموت وهي أماكن. موغلة في المفازة تعني الهلاك، أي صحراء مخيفة، حيث يخاف الإنسان أن يسير في هذه المنطقة، فهي ليست عامرة بالسكان ولا آمنة، ولكنها بعد انتشار الأمر سوف تأمن. ويُؤخذ من
هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واثقاً بالله، وكان مؤمناً بوعد الله سبحانه وتعالى، ولذلك لم يدعُ لهم ولم يقل يا رب أزِل أذية المشركين عن المسلمين، بل إنه أمرهم بالصبر وقال لهم: "إن الرجل فيمن كان قبلكم كان يُؤتى به فيوضع المنشار في مفرق رأسه، ويُمشط ما بين جلده ولحمه، لا يصده ذلك عن دينه شيئاً". فالنبي صلى الله عليه وسلم يرضى بقضاء الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الرضا لمن رضي والسخط لمن سخط، ونحن نرضى بقضاء الله.
يقول ربنا سبحانه وتعالى وهو ينظم تلك العقوبات من أجل الأمن والحماية والرعاية والعناية، ومراد الله يتحقق في الأرض والناس تسير في رحمة من الله إلى رحمة من الله. إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله في الأرض فساداً خرجوا عن مراد الله وسمى الله سبحانه وتعالى جرمهم حرباً لله ورسوله لأنه يريد بذلك الفساد قَصَدَ أو لم يقصد أن يهدم مراد الله فكأنه يبارز الله بالمعصية وبالتالي يبارز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعصية ومن أجل ذلك يعاقبه ويهدده بذلك العقاب حتى
يرتدع المتقون. أو من ألقى السمع وهو شهيد جزاؤهم ماذا وقد أفسدوا في الأرض، وفساد الأرض هنا إما أن يكون بالعدوان على النفس بقطع الطريق قتلاً، وإما أن يكون بالاعتداء على الأعراض، وإما أن يكون بالاعتداء على المال، وإما أن يكون بالتخويف والتهديد والوعيد أن يقتلوا. أو "أو" للتخيير، فللحاكم أن يفعل. هذا أو ذاك أو ذاك من أجل موائمة
العقوبة مع الجُرم ومداه، فمن هذه الجرائم ما يكون مُغلّظاً ومنها ما يستحق التخفيف. ومن هنا نشأت نظرية كبيرة عند فقهاء المسلمين، وهي ما يُسمى عندهم بفن القضاء، وما يُسمى في الأدبيات الحديثة في القانون الحديث بالظرف المخفف. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته