سورة المائدة | ح 959 | 33 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى وهو يقرب نظاماً من نظم العقوبات في الإسلام من أجل الحماية والرعاية والعناية للمجتمع: ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً﴾ أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. نوّع الله سبحانه وتعالى العقوبة بإزاء فعل واحد: يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فساداً. جريمة يمكن أن توصف بها مجموعة من الأفعال والسلوكيات تسمى في الفقه الإسلامي بالحرابة وسميت بذلك لأنهم يحاربون الله ورسوله ثم نوّع العقوبة بإزائها، وذلك لأن الفعل عندما يصدر من الإنسان فإن هناك فاعلاً يقوم بالفعل، وهناك فعل يقع في الكون، وهناك مفعول به يتلقى هذا الفعل، وهذا ما يقوله بعد ذلك وقبل ذلك
المناطقة عندما يتكلمون عن الفعل والانفعال كسر. الرجل كسر الخشب فانكسر، فكسر هو الفعل، وانكسر هو أثر الفعل، ولذلك تكتنف كل ركن من هذه الأركان ظروف وأحوال مختلفة من الفاعل. هل هو قاصد عالم بما يفعل وبأثر فعله بعد ذلك، وهو مختار لم يضغط عليه شيء
ولم يدفعه ويحثه شيء، ولم يكن واقعاً تحت تأثير قوي أو شرعي من الفاعل الفعل مدى إفساده مدى خطورته مدى أثره على الناس، وهذا يختلف باختلاف كل زمان وباختلاف المكان وباختلاف الأحوال وباختلاف الأشخاص. من الذي وقع عليه الفعل؟ هل هو إنسان أو هو حيوان محترم؟ وفي الفقه الإسلامي سمى الفقهاء الحيوان
الذي لا يجوز الاعتداء عليه الحيوان المحترم، وجعلوا وجود الحيوان المحترم واحتياجه إلى الماء مبرراً للتيمم، فإذا كان معك ماء تتوضأ به فيموت حيوان محترم كالغنم والبقر والإبل والغزال، فإنك تحرم نفسك من الوضوء وتتيمم وتترك الماء للحيوان المحترم وجوباً. إذاً هؤلاء
الناس كانوا يفكرون بطريقة منضبطة بقواعد ورؤى وتوجهات ومناهج يجب علينا أن نكتشفها أو أن نعيد اكتشافها. في حياتنا الفاعل والفعل والمفعول به، هل هو إنسان؟ هل هذا الإنسان من هو؟ فاعتداؤك على من تحتاج إليه الأمة ليس كاعتدائك على شخص لا تحتاج إليه الأمة، يُدخلك النار. فما بالك بمن تحتاج إليه الأمة؟ فإنك
تكون قد ارتكبت جريمتين: جريمة الاعتداء على الإنسان كإنسان لأنه إنسان قد كرَّمه الله وإن لم يكن له نفعٌ أبداً، وجريمةٌ تضيِّع نفع هذا الإنسان إن كان صاحب نفعٍ على الأمة. ومن هنا برزت قضية فن القضاء، أن القاضي ينبغي عليه أن يكون عنده فنٌ في حكمه وقضائه، يراعي فيه الفاعل والفعل والمفعول، ويراعي فيه ظرف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، يراعي فيه المقاصد. والمآلات يراعى
فيها العلم والقصد والاختيار، وكل ذلك مسطور عند فقهاء المسلمين. وعندما جاءوا إلى أمور لم يتكلم عنها الشرع، وإلى عقوبات لم يقررها، ولكنه علمنا أنه ينبغي ألا نفوتها، وسموا هذا الباب بالتعزير. فقالوا: والتعزير فم القضاء؛ لأن القاضي ينبغي عليه أن يكون واعياً عندما يطبق العقوبة على المذنب. وضربوا لذلك مثلاً، ومن أمثلة ذلك أن رجلاً
غنياً قد سبَّ رجلاً فقيراً، فذهب الفقير يشكو الغني إلى القاضي أنه قد سبني وشتمني ظلماً وعدواناً ولا ذنب لي، فحكم القاضي على الغني بدفع دينار للفقير، والغني أمام القاضي قال مرة ثانية أمام القاضي: وهذا دينار الثالث، وسبه مرة ثالثة أمام القاضي أحكام عديدة انتقد العلماء على القاضي
فعله هذا ونسبوه إلى الغفلة، وأن أعراض الناس لا ينبغي أن تُقوَّم بالأموال بهذا الشكل، فإن الغني القادر عرف أن ديته دينار، والذي تسب الواحدة قال: حسناً، خذ خمسة دنانير وسأشتمك خمس مرات. يا الله! وأين كرامتي إذا أهانني فقير؟ تُهان كرامتي؟ إلى هذا الحد، نعم. الخطأ هو خطأ تقدير القاضي، حيث قدَّر كرامة الإنسان بالأموال، والأمر ليس كذلك. والله أعلم بالقلوب وبما هنالك. ولذلك قالوا أبداً له أن يؤدبه حبساً، أو يؤدبه تجريساً، أو يؤدبه ضرباً. يقول له: افتح
يديك أمام الناس هكذا. فالغني يأخذها في نفسه: أنا أفتح يديَّ وأنا... افتح يديك، سأضربك ضربةً على يديك، فيها إهانة لا تليق، ليتوقف في المرة القادمة عن شتم الفقراء لأجل فقرهم، وقد يكونون أعز عند الله منه. والتجريس كان يأتي من الجرس، وهو أن يُفضح أمام الناس عندما يصرّ على عدوانه على الآخرين، فيجرّسونه بوضع معين، بمعنى أنهم يسيرون. في الطرقات بجرس يضربونه، يضربون الجرس ويقولون هذا الذي فعل كذا وكذا، نوع من أنواع الرقابة الاجتماعية التي تتغير بكل زمان ومكان. يعني لا يأتي أحد ويقول لي: لكن نحن نريد تجريساً الآن. لا،
ليس ضرورياً، قد يكون هذا التجريس يتم في الصحافة مثلاً، ليس ضرورياً أن يكون بالجرس، بل مع كل زمان ومع كل مكان رسم ربنا سبحانه وتعالى هذه العقوبة وهذا الفن للقضاء أن العقوبة تختلف باختلاف الفاعل والمفعول والفعل والزمان والمكان والأشخاص والأحوال والمقاصد والاختيار والعلم والمآلات والمقاصد. لا بد أن يكون القاضي واعياً حتى يختار هل هذه الحرابة من نوع ما يُقتل
فيه أو من نوع ما يُصلب فيه، أو من نوع ما تُقطع الأيدي فيه، أو من نوع ما يُنفى من الأرض فيه، فهذا اختيار القاضي يتم بتقويم هذه الأشياء. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.