سورة المائدة | ح 960 | 33 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 960 | 33 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، ربنا سبحانه وتعالى يقرر عقوبة من حارب الله ورسوله وأفسد في الأرض وسعى فيها فساداً وكرَّ على مراد الله بالبطلان، حفظاً للأمة وللأمن وللاستقرار وحتى يسير الإنسان في... هذه الحياة الدنيا في طريق الله غير خائف، يقول ربنا سبحانه وتعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم"، والآية
تصلح لكل زمان. ومكان ولذلك نرى فقهاءنا في جمهورهم لا يطبقونها إلا على قاطع الطريق من حمل سلاحاً يقطع به الطريق فيروع الآمنين ويعتدي على الأنفس فيستحق القتل، أو على الأموال فيستحق القطع، أو يخوف القافلة فيستحق النفي، ونحو ذلك من السلوكيات المنحرفة التي تواجه بعقوبات محددة يتخير منها القاضي ما يلائم الحالة. لكنهم لم
يتكلموا حيث لم يكن ذلك شائعاً بهذه الصورة في عصرهم، ولم يكن في تربية الإنسان، ولم تكن الثقافة الشائعة تتصور أن يكون اغتصاب الأنثى من الحرابة، فلم ينصوا على ذلك. لكن لما بدأت بوادر أن يكون الاغتصاب شائعاً في المجتمع، رأينا أبا بكر بن العربي من علماء الأندلس. يقول إن ذلك أولى فإن الاعتداء على العِرض قد يكون أشد من الاعتداء على المال قطعاً، بل وقد يكون أشد
من الاعتداء على النفس في بعض الأحيان، وهذا المفهوم جعله يضع في الحرابة الاعتداء على الأنثى اغتصاباً، وبعد ما رأينا في مجتمعات تطورت وتغيرت ثقافتها ومفاهيمها وعقلياتها أن جريمة الاغتصاب أصبحت واقعاً منتشراً كانت تأباه هذه الأجيال القديمة التي قد عرفت الزنا وهو فاحشة وانحراف، إلا أن الاغتصاب لم يكن موجوداً بهذه الصورة. فإننا رأينا العلماء
قد أقروا كلام ابن العربي وأن الآية قد أنزلها الله لتكون صالحة لكل زمان ومكان، فلم ينصّ على أن هناك عدواناً على النفس. فقط أو على المال بذاته وإنما نص على كلام عام فيه أن يعود الفعل على مقصود الله ومراده بالبطلان، إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، فيشمل كل فعل يمكن أن يدخل تحت هذا النطاق من الإفساد المجتمعي الذي يصل إلى حد الظاهرة
التي لا يمكن السيطرة. عليها إلا بإيقاع حد الحرابة فيها، ولذلك نرى العلماء في مصر قد جعلوا حد الحرابة على من يغتصب الأنثى، وأنه للقاضي أن يحكم عليه بالإعدام. لماذا؟ لأن الأمر قد شاع، فوجب تقرير عقوبة تردع وتمنع. فإذا لم نقرر عقوبة انهارت القيم والمفاهيم والأخلاق، وأصبح الاغتصاب وكأنه شيء من الصغائر لا من الكبائر وغاية
الأمر المؤاخذة بنحو حبس أو سجن أو منع أو شيء من هذا القبيل، أما إذا عرف الغاصب أنه يؤدي بحياته وأنه يلقى عقوبة تناسب جرمه في الفظاعة فإنه يرتدع. يقول بعض الناس إن هذا لا يُجدي، بل إنه رجعي، والإحصاءات تدل على تناقص الظاهرة وإيقافها مع ازدياد. السكان ولذلك فأمرنا بشأن الآية من جهتين: الجهة الأولى في صياغتها أو كان بمقدور النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو بشر يقر القرآن
ببشريته أن يصوغها حتى تتجاوز هذا الزمان والمكان في جميع الأحوال إنها معجزة وأن ذلك دال على أن هذا الكتاب من عند الله، والأمر الثاني هو إنَّنا كما يقول الإمام القرافي يجب علينا أن نعيش عصرنا وأن ندرك أين نحن في عصرنا، وأنه لا يجوز لأحد أن ينظر في الكتب السالفة ويطبق ما فيها على وضع يختلف وهو لا يدري، ويسمي ذلك بالضال المضل. ومن هنا لزم الاجتهاد في كل عصر وأن يقوم علماؤه بما أوجبه. الله سبحانه وتعالى عليهم
أن يبذلوا الوسع في تحصيل الحكم الشرعي بما يلائم مصالح الناس ومقاصد الشرع الشريف ومراد الله من خلقه في كل مكان وفي كل زمان، وإذا لم تفعل ذلك طائفة العلماء فهم مؤاخذون عند الله، قصّروا في حق أنفسهم وفي حق شرعهم وفي حق ناسهم وفي حق. أمتهم ولذلك ينبه العلماء في كل عصر أن الاجتهاد في كل عصر فرض، وقام الإمام السيوطي ليؤلف في هذا فألّف كتاباً ماتعاً دعا فيه العلماء إلى أن الاجتهاد من فروض الكفايات وأنه يجب أن يكون في كل
عصر من يقوم به وإلا أثمت الأمة جميعها. نحن إذاً في هذه الآية. الكريمة نأخذ منها وجوب الاجتهاد لأننا لا نستطيع أن نطبقها على هذا الفهم القرآني إلا بأعمال الاجتهاد وإلا بفهم كلام السلف الصالح فهماً دقيقاً، وهم يدعون إلى أن ننظر في كتاب الله وأن ننظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ننظر في الواقع المعيش، وأن
الواقع جزء. لا يتجزأ من عملية الاجتهاد، فلا يمكن لمجتهد أن يجلس في البيت وفي برجه العاجي ويتصور أنه يجتهد. المجتهد لا بد أن يدرك الواقع لأن الاجتهاد في نهايته هو إيقاع الأحكام الشرعية المرعية على الواقع المعيش. والواقع متطور ومتغير ومركب، نسيج عجيب، غابة مليئة بالأشجار والأدغال، ولذلك عليه أن يدركها. وأن يدرك كيف يطبّق حكم الله فيها حتى يصل في النهاية إلى مقصود الشرع من تشريعه، لا يخرج قيد أنملة عن نص الكتاب ولا
عن نص السنة، ولا يتجمد على كلام السلف ولا حالهم، وإنما يأخذ مناهجهم ولا يقف عند مسائلهم. هكذا أمرونا وهكذا علمونا، وهكذا أمرنا الله سبحانه وتعالى. وهكذا يشعر المؤمن بحلاوة شرعه وبعلوه في الناس إذا ما اتخذ هذا المنهج والطريق أسلوباً لفهم كتاب الله سبحانه وتعالى. ذلك لهم خزي في الدنيا. هذه العقوبة المقصود منها هو استعظام الذنب، وأن المعتدي والسارق والقاتل والمغتصب وأمثال هؤلاء هذه جرائم وليست
أشياء طيبة يمكن أن نقبلها أو أن نمررها. لا بد أن نصف هذه الأفعال بأنها سيئة قبيحة، والتحسين والتقبيح إنما هو من عند الله، ودرجات الفعل ودرجات سوئه إنما هي من عند الله. "ذلك لهم خزي في الدنيا"، إذاً فجزء من نظام العقوبة في الإسلام هو وصف الأفعال بأنها طيبة أو بأنها من الخزي. القضية الثانية
أن المجرم. لا ينبغي أن يفلت من العقاب، ولذلك فلا بد علينا أن نقر في ثقافتنا وفي قبولنا أن المجرم له الخزي، ذلك لهم خزي في الدنيا. القضية الثالثة ربط ذلك كله بمراد الله وأمره، ولذلك ولهم في الآخرة عذاب عظيم. فليعلم حتى الذي أوقعت عليه العقوبة أنه لا بد عليه أن يتوب إلى الله حتى يقبله الله سبحانه وتعالى، ولا تكون التوبة إلا بالعزم على عدم فعل ذلك مرة أخرى، وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.