سورة المائدة | ح 965 | 35 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 965 | 35 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون". والجهاد كلمة في الشرع الشريف أوسع من القتال، فإن القتال صورة من صور الجهاد له شروطه وله قواعده وله مبادئه وله نهايته وله أهدافه وله مآلاته وله
مقاصده وله طرقه. القتال إنما هو جزء من الجهاد، فالجهاد أوسع من القتال، يشتمل على القتال وعلى غيره من الصور. ولذلك نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحج جهاد المرأة والطفل الحج جهاد، وعندما اشتكت له السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها الصديق أن الرجال قد
أخذوا بحظ وافر في القتال وأن النساء لم يأخذن بنفس الحظ، فقال: "الحج لكن جهاد". إذاً فالحج جهاد، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما أتاه رجل طلب منه أن يخرج معه في الجيش. ليقاتل في سبيل الله فقال له: "ألك أبوان؟" قال: "نعم يا رسول الله"، قال: "فيهما فجاهد". فجعل صلى الله عليه وسلم بر الوالدين
والقيام بهما وخدمتهما جهاداً، والمتلبس بذلك مجاهد. والنبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة من غزواته، وكانت إحدى ابنتيه عند عثمان بن عفان فهو ذو النورين لأنه تزوج الرقية وأم كلثوم وماتتا في ذمته فسمي بذي النورين لأنه تزوج من ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال له: "لو كان عندي ثالثة لزوجتكها".
ما كان النبي يتشاءم، بل كان يعلم أن ذلك مكرمة لبناته ولأصحابه رضي الله تعالى عن الجميع. فأمره النبي صلى عليه وسلم أن يلازم خدمتها ورعايتها وتمريضها وجعل ذلك جهاداً وجعله يتساوى مع مَن خرج معه صلى الله عليه وسلم للقتال، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يقول: "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة خاصة للحاكم ولولي الأمر خاصة إذا
كان معرضاً عن المصحف أو متجبراً في الأرض أو يخافه الناس، فتجرأ من معه الحجة والنصيحة فبلّغه إياها، إن ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. والنبي صلى الله عليه وسلم جعل جهاد النفس جهاداً في سبيل الله، ومنعها من المعاصي، وأراد أن يضع الأسماء الصحيحة بإزاء المعاني الصحيحة فكان. صلى الله عليه وسلم دائماً يصحح المفاهيم فقال: "المسلم من سلم المسلمون من
لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، ليس المهاجر الذي هاجر من مكة إلى المدينة. ومن تظنون فيكم المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا جمال، لم يمتلك قلوب. اسمه مفلس. قال: "لا، المفلس يأتي يوم القيامة وقد سبَّ هذا ولعن هذا وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، ويضع هذا من سيئاته عليه. إذًا المفلس قد تغيّر مفهومه، والمهاجر قد تغيّر مفهومه، والمسلم قد تغيّر مفهومه، والمجاهد كذلك قد تغيّر. يصحِّح
المفاهيم صلى الله عليه وسلم، كلام طويل في تصحيح الله عليه وسلم كان يصحح المفاهيم، احذر أن تظن هكذا في البداية، فتقول نعم، لكن لا، هذا شيء آخر. فقال فيما أخرجه البيهقي في كتاب الزهد الكبير: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس". فسمى جهاد النفس ومقاومتها الجهاد الأكبر، لأن القتال يستمر يوماً أو... يومان يعني. جلست بدر يوم واحد، يوم الخندق، كذا يوم، يومين، ثلاثة، لكن النفس
هذه معك على الدوام، ولذلك سميت بالجهاد الأكبر نسبة إلى الزمن، والثاني الجهاد الأصغر ليس احتقاراً له وتصغيراً وتحقيراً، لا، وإنما لأن مدته قليلة. ستصبر كم؟ يوماً واحداً، لكن أنت ممنوع من نفسك يبقى... إذا الذين تركوا أنفسهم لمزاولة أعمال البلطجة، نعم هؤلاء عليهم أن يخافوا من الله، وقد استمرؤوها واستحلوها وشاعت فيهم، فسيكون لهم خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب. فالجهاد عندما يأمرنا الله سبحانه وتعالى به ويجعله في سبيله، ويأمرنا أن
نخلص النية فيه ونجعله في سبيله سبحانه ذلك يشمل القتال ويشمل النفس ويشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشمل الحجة ويشمل النصيحة ويشمل كل هذا كل ما ذكرناه وما لم نذكره. والنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أرشدنا إلى أن هناك أعمالاً تساوي الجهاد أو تفوق الجهاد،
ولذلك فالأعمال التي تفوق الجهاد يسمونها العمل الرابح أو المربح. إنها أشياء يعني ركعتان في جوف الليل كل يوم، هذه مسألة كبيرة جداً. بالرغم من أن الجهاد ذروة سنام الأمر، ولكن بالرغم من ذلك إلا أنه أيضاً بهاتين الركعتين اليوميتين أنت لا تعرف ماذا تفعل، إنك أنت... تفعل أشياءً كثيرة. يقول الإمام السيوطي في تأييد الحقيقة العالية إن من ضمن فروض الكفايات في الأمة أن
يكون فيها مستجاب الدعاء، يعني أن يكون بيننا شخص لو رفع يديه إلى السماء قائلاً: "يا رب"، يستجيب الله له. لماذا؟ لكي يشعر الناس بأن الله معهم. يعني عندما نضيق ذرعاً نذهب هذا الشيخ وسنقول له ادعُ لنا فيدعو لنا فيُستجاب، فنقول نعم الحمد لله ها قد استجاب ربنا. إنه من فروض الكفاية، أي لو لم يكن من الضروري أن يوجد شخص ما يدعو الله سبحانه وتعالى. من كثرة ما قلنا وأنتم تجلسون في المساجد إن العمل أفضل العبادات، لا أعرف ماذا، ليس ضرورياً، فالعمل واجب وعبادة وكل شيء، وهذا الصنف لا بد
أن يكون موجوداً، واحد اثنان هكذا، هو وبقي في كل جيل. ربنا أيضاً يجعل شخصاً مستجاب الدعاء، يمد يده إلى السماء: "يا رب، يا رب"، فيستجيب الله له لأنه جاهد في سبيله، ولذلك قال في ختام الآية: "لعلكم تفلحون". الجهاد وهو ماضٍ إلى يوم القيامة بأنواعه المختلفة يجعل الإنسان المسلم في مأمن وفي قوة مع ربه. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.