سورة المائدة | ح 967 | 37 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول الله سبحانه وتعالى في شأن الكافرين الذين يريدون أن يهربوا من عذاب الله سبحانه وتعالى، وبعضهم يريد أن يحوز الدنيا وأن يحوز الآخرة، وبعضهم لا يبالي بالآخرة. فيُفاجأون هناك، حينئذٍ يقول في شأنهم: "يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم". إذاً فهم يريدون ويرغبون ويشتهون أن يخرجوا من النار، فهم متكبرون في الدنيا، لم
يكونوا يصدقون، رأوا النار رأي العين، أحسّوا بها، دخلوها، وقد قُدر بشأنهم العذاب من عند الله الذي لا عنده أحد ولا يظلم مثقال ذرة وما ربك بظلام للعبيد. فربنا سبحانه وتعالى هو الذي يعاقب وهو أحكم الحاكمين وهو العدل قاضي القضاة ملك الملوك لا إله إلا الله، ولذلك فلا يتصور في شأنه سبحانه وتعالى إلا أن يكون عادلاً، وكثير من الناس تتعجب من أن الله الرحمن الرحيم الرؤوف. العفو
الغفور يعذب هذا العذاب، وربنا سبحانه وتعالى نص على أنه يعذبهم عذاباً مهيلاً وعذاباً أليماً، وهنا يأتي بصفة أخرى من العذاب أنه دائم مستمر وأنه مقيم. ويسأل بعض الناس قائلين: نحن لا نحب هذا الإله الذي يعذب هذا العذاب الأليم المهين المقيم، ولِمَ لا يعفو حتى عن ذلك الكافر. قليل
الأدب المتبجح عنده وقاحة ذاك الذي خالف ربه، وأن يرحم ضعفه وأن يتجاوز عنه. وكانت المفاجأة أن الله سبحانه وتعالى عندما تكلم عن الوعيد لم يتكلم عن العقوبة ولم يتكلم عن الانتقام بهذا الكم الكبير وهو يصف ما هو بإزاء فعل الكافرين المفسدين المسرفين الظالمين لأنفسهم،
وإنما استعمل في الأغلب كلمة "عذاب"، وكلمة "عذاب" في لغة العرب مكونة من ثلاثة حروف: العين والذال أخت الدال والباء "عذاب". ولو رجعنا إلى لغة العرب من أجل أن نتعمق في هذه الكلمة لوجدنا أنها تُستعمل أيضاً في الماء الحلو فنقول: "هذا الماء عذب"، وعندما نصف الكلام الجميل
الذي ينساب ببساطة نقول هو... كلام فيه عذوبة، فكلمة "عذب" وكلمة "عذوبة" من نفس البناء اللغوي، فهل هذا أثّر في استعمال القرآن لهذه الكلمة؟ يقول الشيخ محيي الدين بن العربي أن الله سبحانه وتعالى استعمل هذه الكلمة من أجل أن يبين أن رحمته في عقوبته، من أجل أن يبين أن رحمته في عقوبته، يعني متخللة عقوبته فيشعر
أحدهم بالألم مع شعوره بلذة بذلك الألم، يشعر بالألم حسناً، شيء مؤلم، شيء فظيع، لكنه سبحان الله يشعر بلذة في هذا القلب. كيف هذا؟ قال: ضرب الله لنا أمثلة حولنا نتأمل فيها وندرك معاني القرآن منها. مثل ماذا؟ قال: هات لي مثالاً، المرأة التي تلد تتألم غاية. الألم وهي
سعيدة غاية السعادة، هل يعقل أن يتألم شخص ويسعد من ناحية الألم؟ ولو ركزت فيه تتألم كأي إنسان يتألم أثناء الولادة، تعاين فيها المرأة الموت، إنما لتعلقها بحبها بولدها، بفلذة كبدها. انظر ماذا يقولون عن الابن، فإنها تتعلق به تعلقاً شديداً غير مبرر، أي أن المرأة في حبها كالمجنونة تحب ابنها كثيراً لكنه حب جنوني، فهي إذا التفتت إلى الولد هان عليها الألم ولم تلتفت
إلى هذا الألم بالرغم من معاينتها له. وإذا جلست تتأمل الإبل وقد أصيبت بالجرب - والجرب هو، والعياذ بالله، مرض جلدي يصيب الإنسان ويصيب الحيوان ومن ضمنها أن يصيب الإبل. التي هي الجمال فالجمال أصيب بالجرب، فماذا يصنع؟ قال: تراه يبحث عن شجرة يحك جلده فيها حتى يَدمَى، إلى أن ينزل منه الدم. فإذا فعل ذلك شعر
بالتخفيف من الجرب وشعر بلذة الحكة. فيصبح الشخص يريد أن يحك هكذا، وعندما يحك يشعر بلذة الحك وفي نفس الوقت بألم الحك. إذا يتصور أن يكون هناك ألم وأن يصاحب الألم لذة، هذا كلام فلاسفة كبار. الألم واللذة من مباحث الفلسفة المتخصصة. مبحث الألم واللذة له أهمية لأنه مبحث المنفعة والمفسدة. ما هي المنفعة؟ جلب الملذات ودفع الآلام ووسائلهما. وما
هي المفسدات؟ جلب الآلام ودفع اللذة ووسائلهما. إذن ما هي المنفعة؟ إنك تجلب الملذات وتدفع عن نفسك الآلام والمفسدة، بالعكس تجلب لنفسك الآلام وتدفع عن نفسك الملذات، قال: وهذا لا يكون إلا بحكم الله. من الذي يحدد المنفعة والمفسدات؟ الله. يقول الإمام القرافي: وذلك لأنك لا تجد منفعة أو لذة محضة، ولا تجد مفسدة محضة، بل تجدهم داخلين في بعض. قال: أردت لذة
طهي الطعام، تريد أن تأكل قطعة لحم طيبة هكذا، ماذا تفعل؟ إما أن تشويها أو تسلقها، فإذا سعيت لإنضاجها لسعتك النار. هل تنتبه؟ فلا توجد منفعة خالصة تماماً، ولا توجد مفسدة خالصة، ولكنها اختلطت فأرادت تحديداً من الله رب العالمين، ولذلك فإننا نقول لمن صدّ عن الدين. من أجل ما يُقرأ من آيات العذاب أن الله رحيم، وأن الله فعل هذا ليصد عباده عن المعصية، وأنه مع
هذا فهو رحيم في كل حال. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.