سورة المائدة | ح 970 | 39 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى بعد آية السرقة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ﴾ يتوب عليه إن الله غفور رحيم، في هذه الآية يفتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة، وهكذا شأنه سبحانه وتعالى
دائماً لمن أذنب، حتى يبدأ صفحة جديدة وحياة جديدة ملؤها الإيمان وملؤها الطاعة وملؤها الالتزام وملؤها الإصلاح، ويشير إلى أن من تاب الله عليه، فمن تاب من بعد ظلمه. تشير الآية أيضاً إلى أن شأن من ظلم الأسرع في التوبة، فقد رُسِمت الطريقة لمن ظلم ماذا يفعل. ولذلك كلما ارتكب الإنسان مظلمة أو سيئة، فإن
الطريقة في ذلك أن يبدأ في فعل الحسنات لتمحو السيئات. إن الحسنات يُذهبن السيئات، ولذلك يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يسأله. أحدهم أنه وقع في خطيئة فيقول اذهب فتوضأ، فالوضوء كأنه من مكفرات الذنوب. ويتكلم عن الوضوء إنك عندما تتوضأ تتحات ذنوبك منك كما تتحات الورق من الشجر في الخريف، يعني تسقط، أي تُغسَل. فعندما تجعل الوضوء لله
يغسل ذنوبك، ولذلك كان يقول: "الوضوء على الوضوء نور على نور" يعني الوضوء. هدفه إزالة الحدث حتى نذهب إلى الصلاة. حسناً، أنا متوضئ. قال له: لا، ليس هذا فقط، بل له هدف آخر وهو أنه يضيف إليك نوراً، والنور الذي يضيفه إليك في المرة الثانية هو عبارة عن غفران الذنوب. اذهب فتوضأ. وكان عندما يُسأل عن خطيئة ارتكبها أحدهم، فيقول له: تصدق، فإن كما
يطفئ الماء النار، فماذا نفعل إذن؟ وما هو البرنامج لمن ظلم أن يأتي بالخيرات، ولمن أفسد أن يأتي بالصلاح، ولمن أسرف أن يأتي بالطاعات، ولمن عصى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى. فهناك توبة وهي قرار إيقاف الظلم وقرار بدء الصلاح، وهناك إصلاح، وكأننا نريد أن يكون الذنب محايداً نقول ماذا في قضية تحييد الذنب؟ فيقول: "فمن تاب من بعد ذنبه" هذا
قرار الإقالة، "وأصلح" هذا قرار تحييد الذنب، قرار نحو الذنب، فأصبحت صحيفتك بيضاء، أصبحت صحيفتك محايدة، هناك توازن، "فإن الله يتوب عليه"، يبقى فيه أثر لهذه التوبة "إن الله غفور رحيم"، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه. وسلم إذا لم يبلغ الذنب الحاكم لأن بلوغه إلى الحاكم معناه أنه قد شاع. إذا
لم يبلغ الذنب الحاكم إذاً فهو لم يشع بعد، تُقبل فيه التوبة ويسقط به الحد، ولا يفتش الحاكم من أجل أن يوقع الحد والعقوبة على المذنب. يبقى أن بعض الحكام في عالمنا الآن يلفقون التهم. لكي يحصل الأب على عمل، لا يصح ألا يراعي ربه، وليعلم أن هذا الولد الذي تاب وستر الله عليه لا يجب ولا ينبغي ولا يُستحسن أن يبحث وراءه حتى يوقع به لإتمام العقوبة، فإنه إن تاب قبل أن أقدر عليه فتوبته
مقبولة بينه وبين ربه ويجب عليه. أن يقرر التوبة أولاً وأن يصلح حتى يمحو ذنبه ثانياً، فمن فعل ذلك تاب الله عليه. هذه الفكرة الشرعية القرآنية، فكرة المحو، فكرة الحياد، أخذها الأطباء المسلمون في بدايات الإسلام وفي حضارات الإسلام، وبنوا نظرية التوازن الجسدي وتكلموا عنها. وممن تكلم عنها
الإمام الغزالي، وأن المرض يأتي من اختلال التوازن. الجسدي كما أن المرض القلبي الشرعي يأتي من اختلال التوازن بالسيئات، فإذا قلت حرارتك يكون هناك مرض، وإذا زادت حرارتك يكون هناك مرض، إنه اختلال التوازن. ولذلك يعطيك ضداً لضد حتى يحايد، فأنت إذا كان عندك ارتفاع في الحرارة يقوم بإعطائك كمادات لكي تخفض الحرارة، وإذا كان عندك انخفاض في بالبطانية كي ترتفع الحرارة، ويراعى
أن يكون ذلك أيضًا في الأطعمة؛ فهناك أطعمة ترفع الحرارة وأطعمة تخفضها. إذا كان لديك ارتفاع في الحرارة، فلا تتناول الأطعمة التي تزيد الحرارة، فنحن نريد خفضها. وإذا كان لديك انخفاض في الحرارة، فلا تتناول أيضًا الأطعمة التي تزيد هذا الانخفاض، بل تعطى. لك زيادة في درجة الحرارة وهكذا، وعندما ظهر تلوث البيئة فكروا في هذه الحيادية، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح لابد أن يصلح، ويقول لك تعال احسب كم تفسد في الكون، وكم تستهلك من الكهرباء، وكم تستهلك السيارة، وكم تستهلك من الورق، فهذا
الورق يأتي من... الشجرة تُزرع لتنفع. ماذا ستفعل؟ أصلِح ما أفسدته. كم تأكل أنت؟ إذن يجب عليك أن تزرع بعض القمح أو تساهم فيه أو تساعد فيه لكي تبقى البيئة متوازنة. فمن تاب من بعد ظلمه - انظر كيف أنها نزلت في السرقة، لكن نوسعها إلى كل الذنوب، ثم نوسعها إلى المعاملة مع... الله ثم نوسعها إلى الخَلْق والحياة ومنهج الحياة، فيصبح كأنك هو، وهذا نوع من أنواع طلب الهداية من القرآن. لماذا كان هذا القرآن هادياً للمتقين؟ هدىً للمتقين لأنه
كلما اتسعت دائرته معك دون تناقض معقول، وكلما ضيّقت الأمر وذهبت إلى الدائرة الأقل وجدت أيضاً هناك دون تناقض معقول إذاً. من طريقة قراءة القرآن بفهم أن تتداعى أفكارك، وتنتقل من دائرة إلى دائرة إلى دائرة أخرى، فتجد نفسك فهمت هداية الله في هذا القرآن الذي نقول عنه أنه المكافئ والصورة المثلى من الوحي لهذا الكون
المحيط، فإن هذا كتاب الله المسطور وهذا كتاب الله المنظور، القرآن كتابه المسطور والكون كتابه. المنظور وكلاهما من عند الله، هذا من عالم الخلق وهذا من عالم الأمر. ﴿ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين﴾. وإلى لقاء آخر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.