سورة المائدة | ح 971 | 40 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير". هذا سؤال غرضه التنبيه وليس. غرضه الاستفسار وليس كل سؤال في العربية غرضه الاستفسار، بل إن منه ما يكون غرضه التنبيه ولفت النظر، وهذا منها.
ألم تعلم؟ ربنا يعلم ورسوله يعلم، ولكن لما خاطب الله رسوله بهذا الأسلوب فكأنه يلفت أنظار السامعين، أنظار العالمين، أنظار القارئين المتدبرين لكتابه إلى هذه الحقيقة ولفت النظر إلى الحقائق. معناها الأمر بأن تجعلها قاعدة وأساساً لحياتك وأن تبني عليها كل تصرفاتك، لأن تصرفاتك حينئذٍ ستكون مبنية على أساس قوي
متين، على حقيقة وليس وهماً، على حق وليس باطلاً. فعندما نسأل السؤال لفت الأنظار، إذاً يؤدي لك إلى أن تعتبر هذا أساساً لحياتك كلها، فماذا يقول أن الله له. ملك السماوات والأرض حقيقة، فماذا لو جعلتها أساساً لحياتك أن الله له ملك السماوات والأرض؟ كيف تجعلها حقيقة في
حياتك؟ أول شيء أن تفهمها، ثاني شيء أن تعيشها، ثالث شيء أن تعيش بها. تفهمها ماذا يعني أن الله له ملك السماوات والأرض؟ يعني هو يمتلك امتلاكاً حقيقياً كل شيء في وكل شيء في الأرض وبناءً عليه فهو الذي يتصرف في هذا الملك، وهذا الملك يكون هو صاحبه، والملك يكون هو سلطانه كما يشاء دون أن
يوصف بظلم؛ لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو التدخل في ملك الغير، وهذا ملكه وملكه طيب، فكل ما يكون في هذا الكون. حقه أن نسلمه إلى الله، وحقه أن نرضى به، وحقه أن نتوكل عليه، وحقه أن نطلبه منه. فَهِمنا ذلك، كيف ستعيشها وكيف تعيش بها؟ تخيَّل أنك لا تسأل إلا الله، وتخيل أنك عندما تسمع كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الإيمان تفهمه فهماً آخر، وإذا سألت... فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، وإذا بك تتأمل الفاتحة التي تكرر منك تلاوتها كل يوم سبع عشرة مرة، وإذا صليت السنة سبع عشرة مرة أيضاً، وتقول فيها: إياك نعبد وإياك نستعين. وإياك لما تقدمت على الفعل كما ذكرنا دلت على الاختصاص والحصر والقصر، يعني نستعين بك وحدك، فلو أنك... بدأت تعيش
في هذه الحقيقة وتعيش مع هذه الحقيقة فإن قلبك سيتغير في التعامل مع الله، لأنك عندما تدعو الله سبحانه وتعالى ستكون موقناً بالإجابة. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وتدعو الله وأنت تسلم له أمرك، فإن استجاب وإن لم يستجب لم يستجب، وتتابع مع الله وتجعل دعاءك عبادة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "الدعاء هو العبادة".
فتأتي وتقول: صحيح، هذا الكلام دقيق، لأنك تخلقت به وعرفت ما معنى أن يكون الدعاء عبادة. الدعاء عبادة، إذاً لا يوجد اعتراض ولا عجلة ولا استعجال ولا تبرم ولا اعتراض ولا شيء من هذا كله، هذه عبادة. وأنت في نفس الوقت تطلب منه المزيد وتعبده وتسأله وتلح في السؤال وتستمر لأنه عبادة، وتفهم ويفتح لك من الفهم ما لم يكن قد فُتح لك من قبل. إذا عرفت أن لله ملك السماوات والأرض وأنه
هو المالك والملك، إذا عرفت هذه الحقيقة وعشتها فإنك لا تخاف من أحد إطلاقاً. لا يوجد خوف أبداً، أي هو كما هو، مَن أنت؟ لا أعرفك. ما أعرفه هو الله. لا أعرفك، لكنني أعرف أنك بشر تذهب إلى دورات المياه لقضاء حاجتك، وتأكل ثلاث مرات في اليوم على الأقل لكي تقيم صلبك. وإذا تعبتَ، وحتى لو أكلت مرة واحدة، ستجد نفسك مدوخاً هكذا، مغمض عين غير مركزة معنا سبحان الله. من
أنت؟ ليس احتقاراً لك وإنما أصفك بصفتك الحقيقية أنك مخلوق ضعيف، أما هو فهو القوي. إذا عشت هذه الآية "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض"، هذا الجزء من الآية "ما له ملك السماوات والأرض"، فإنك بالإضافة إلى التوكل... والتسليم والرضا وأنك تسأله سبحانه وتعالى وأنك لا تحزن على شيء فاتك وأنك تعيش في اطمئنان دائم وعدم خوف من أحد فإنك أيضاً وما
دام أن الله له ملك السماوات والأرض تجد نفسك عطوفاً على الخلق ترحم الخلق لأن الله له ملك السماوات والأرض وتقرأ الكون على مراد الله مرة. شخص اسمه الشبلي توفي ابنه، فقالوا له: "ابنك مات"، فضحك. قالوا: "أأنت مجنون أم ماذا؟ نقول لك ابنك مات وتضحك؟" قال: "إن معنى ذلك أن الله كتب لي ثواباً كبيراً جداً، وسأسبق هذا الولد إلى الجنة لكي يُدخلني الجنة". وقالوا لرجل من أولياء الله: "ابنك مات"، فبكى.
شديدٌ فقالوا له: "لماذا تبكي؟ إن الشبل قد ضحك". قال للشبل: "أرأيت نفسه؟ هذا الشبل يرى نفسه". يعني هو لم يرَ إلا أن الولد دخل هو (الجمل)، لكن هذه رسالة من ربنا. أنا أحزن وأبكي، يعني ربنا أراد عندما أخذ ولدي أنني... هذا يقول: "مُت الآن"، انظر ما يحدث في أعيش فيها على الدوام. قال إننا نبكي الآن لأن الله أخذ الولد، فلماذا يبكي؟ حسناً، وهل يستطيع المرء أن يسيطر على نفسه ويبكي هكذا؟ هو فقط يبكي لأن الله سبحانه وتعالى أراد له
هذا المقام الآن. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول ما يغضب الله، وإنا على فراقك يا إبراهيم إنا لمحزونون والسلام عليكم ورحمة الله