سورة المائدة | ح 975 | 41 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه". وهنا يعلمنا ربنا سبحانه وتعالى كما علمنا مرات الإنصاف. وينسبون الصفات القبيحة لبعض القوم وليس لكلهم مرة بعد أخرى بعد ثالثة بعد عاشرة، يؤكد لنا أنه من وليس
كل، ومن الذين هاجوا، وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يعلم المؤمنين والمسلمين إلا الإنصاف، وأنه لم يكن عدواً لدين الرسالة ولا لأتقياء هذا الدين من الذين قاموا بحرمات الله. وطاعته وآمنوا برسله ووقفوا عند حدوده، بل إن هؤلاء لهم التقدير ولهم الاحترام، ولكن بعض هؤلاء خالفوا وأشركوا بالله وعصوا ربهم وأفسدوا في الأرض وبغوا وطغوا، ولذلك فنحن لا نكره اليهودية لأنه يهودي ولا نكره
أحداً من النصارى لأنه نصراني، بل نكره صفات نهى الله عنها، فإذا لم يكن الإنسان كذلك بل كان صادقاً وكان مصلحاً وكان قواماً بأمر الله سبحانه وتعالى، فهنا تكون علاقتنا معه مختلفة عن هذا الذي يفسد في الأرض وهذا الذي يطغى ويبغي على خلق الله. ومن الذين هادوا بعضهم سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين، من هؤلاء ومن هؤلاء سماعون للكذب من
قوم أتوك فهم منكم. سمّاعون للكذب من قوم آخرين لم يأتوك، إذاً فهنا نأخذ اكتفاءً بما يُذكر في الجملة المقابلة: سمّاعون للكذب، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك. يعني تفكيك العبارة: سمّاعون للكذب من قوم منكم أتوك، سمّاعون للكذب. كلمة "الكذب" غير موجودة في السمع الثاني، لكنها موجودة في السمع الأول لقوم آخرين لم يأتوك،
حذف من الجملة الأولى ما يُستدل عليه من الجملة الثانية، وحذف من الجملة الثانية ما يُستدل عليه من الجملة الأولى، وهذا يُسمى في البلاغة التي تعلمناها من القرآن "الاحتباك". من النادر أن تجد في الكتب هذه الكلمة، ماذا يقولون عنها؟ الاحتباك. فالاحتباك هو أن تكون هناك جملتان نحذف من الأولى بشأنها من الجملة الثانية ونحذف من الثانية ما يُستدلُّ
عليه من الجملة الأولى. هذا تعريف الاحتباك وهو غاية في البلاغة، أي أنه أمر بليغ جداً. الاحتباك نادر، ولا يستطيع أحد إتقانه بشكل جيد جداً، ولذلك لا تجده في كثير من كتب البلاغة. هذا الاحتباك عندما تقرأ كتب البلاغة. كثير جداً قم يا مصطفى. كلمة "الاحتباك" تقول: "اللّه، هذه كلمة لم نَرَها من قبل، أين كانت هذه؟" نعم، إنها قليلة الورود، نادرة جداً. فانظر كيف "سمّاعون للكذب" ولم يقل
من أين؟ من الداخل. سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك، سمّاعون منهم، أيّ شيء؟ الصدق؟ الكذب أيضاً، كذب من الخارج. تصوراتهم وعقولهم وعقائدهم وتصرفاتهم مبنية على أكاذيب من الداخل ومن الخارج. يقولون لك الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية، من أين يأتون بهذا الكلام؟ فالقرآن يتحدث عن وجود جبهة داخلية زعزعت الجبهة الداخلية المطلوبة للعدو. فالعدو يريد أن يزعزعنا من الداخل، وهذه الزعزعة تكون عن طريق
ماذا؟ عن طريق الإشاعات، وعن طريق الأمة عن طريق أن نعمل بعضنا مع بعض، يقاتل بعضنا بعضًا لكي نصفّي بعضنا، والجبهة الخارجية تتأتى عن طريق العدوان، يعتدي عليّ ويصدمني، لا يدعني أعرف ابني أبدًا، كلما يراني يقول: روحي وعيني، ثم يضرب. الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية، هذا الكلام من كثرة ما تناولناه، أصبح بعضنا يشعر بالملل منه. دعنا نتحدث، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" - التي هي الإشاعات - أخرجه
مسلم في مقدمة صحيحه وهو يؤسس لمنهج التوثيق عند المسلمين، وأن المسلم لا يتفوه ولا يقول إلا عن مشاهدة ويقين. "رأيت الشمس فعلى مثلها فاشهد"، هكذا أن نتحدث بكل ما سمعنا من غير تثبّت، فهذا لم يعلمنا إياه رسول الله، بل نهانا عنه، بل وصفه بأنه كذب. وعندما وصف المؤمن وقال له أبو ذر: "أيكذب المؤمن؟" قال: "لا". والسؤالين اللذين قبله: "أيزني المؤمن؟" قال: "نعم"، أي شهوة دفعته إلى المعصية. "أيسرق المؤمن؟" قال: "نعم". شيء
دفعه إلى أن يقع في هذه المصيبة وهي السرقة والفاحشة، هذه السرقة فاحشة. أيكذب المؤمن؟ قال: "لا، لا يكذب". انظر إلى الشفافية، انظر إلى الصدق، انظر إلى نور القلب. أيكذب المؤمن؟ قال: "لا". وعندما أتاه أحدهم وقال: "يا رسول الله، أريد أن أسلم، أريد أن أدخل في الإسلام لكنني أن أترك الزنا، قال: أسلِم، ادخل في الإسلام وعاهدني ألا تكذب، فقط لا تكذب. فكان كلما يهم بالوقوع في المعصية يقول: إذا سألني رسول الله
فلن أكذب عليه، حتى ترك الزنا وخلَّص الله جسده منه. ما هو إلا إدمان، مثل الإدمان تماماً، فخلَّصه الله بالصدق، والصدق من جاء ومن. الذين هادوا سماعون للكذب من الداخل سماعون لقوم آخرين لم يأتوك من الخارج، فآخرين لم يأتوك هذه الجبهة الخارجية. يحرفون الكلمة من بعد مواضعها. هنا هناك صدق كامل وهناك كذب كامل، صدق كامل وكذب كامل. الصدق الكامل يحكي
الواقع بوضوح، الكذب الكامل ليس له أرجل وسينكشف. الكذب الكامل تكشفه فوراً. ولكن هناك نوع من أنواع التلبيس والتدليس يخلط فيه المفتري الحق بالباطل والصدق بالكذب والوقائع الصحيحة بالوقائع المختلقة. "لِمَ تَلْبِسُونَ الحقَّ بالباطلِ وتكتمونَ الحقَّ وأنتمْ تعلمونَ؟" هذا هو السؤال. وإلى لقاءٍ آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.