سورة المائدة | ح 976 | 41 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، ربنا سبحانه وتعالى يقول: "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلمة من بعد مواضعه". يحرفون الكلمة من بعد مواضعه أي أنهم يكذبون الكذب. الحق المحض والكذب المحض في الحقيقة سهل الانكشاف، ولذلك قلنا في أمثالنا: "الكذب ليس له رجلين، كسيح"، لأنه لا يستمر طويلاً إذ
تكذبه الوقائع، ولا يشهد عليه أحد، فهو كذب محض وافتراء. ولذلك اعتاد المفترون الكذابون أن يخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب، والوقائع الصحيحة بالوقائع الباطلة حتى يتم التلبيس على ربنا فقال لهم بوضوح في سورة البقرة "لمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون" يعني ليست قادمة لأنه التبس عليه الأمر فعلاً فحكى شيئاً ظنه صدقاً فبان غير صحيح، لا، إنه يكذب وهو متعمد
ويرجو أن يموّه كذبه على الناس كما أنه يخاطب الناس بالأكاذيب الملفقة ويزينها ببعض الوقائع. الصحيحة فيحدث ذلك التلبيس على الخلق، وهذا المنهج في الحقيقة هو منهج الشيطان الرجيم، ولذلك ولهذا السبب سُمِّيَ إبليس من أنه يُلبِس الحق بالباطل، يخلط الحق بالباطل والباطل بالحق، ويأتي بصدقةٍ بأمرٍ صادقٍ واحد فيلف عليه ألف كذبة، وكلما
أردت أن تتبرأ من الكذب واجهتك الكلمة الصادقة فتضطر أن تقول انتبه، هذه صدق ولكن هذه كذب، فيظهر في موقفك عند غير العقلاء عند الدهماء أنك تأتي وتقول: يا إخواننا، هذه صدق لكن هذا الجزء كذب، وهذه صدق أيضاً لكن هذا كذب، وهذا صدق لكن هذا كذب وهكذا. فعندما يقول: يا إخواننا، ما هو الرجل لم يأتِ بشيء من الخارج. هو لا يقول الصدق، إنه إبليس ابن إبليس، ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتثبت: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وفي قراءة "فتثبتوا
أن تصيبوا قوماً بجهالة". إذاً الأمر مرتبط بالعلم، والعلم هو القدر اليقيني من المعرفة، وهذه مهمة القاضي: أن يسمع وأن يفرق بين الحق والباطل وأن... يحكم على الناس بما يراه حقاً. إذا نحن أمام ظاهرة اسمها ظاهرة التلبيس والتدليس والخلط بين الحق وبين الباطل، وعلينا أن نكون حكماء. يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. نفرق،
أما أن نقبل كل شيء هكذا من غير تدقيق وتحقيق، من غير تصديق، من غير... أن ترقق قلوبنا للحق فإننا نقع في حبائل الشيطان، سماعون للكذب، فكلمة سماع صيغة مبالغة، فهو لا يسمع الكذب مرة واحدة بل إنه استمرأ سماع الكذب. عندما تأتي لتقول له كذباً تجد قلبه مفتوحاً لك. هل انتبهت أن عكس سماعون للكذب يعني
أن هناك إرادة، لأن يسمع. الكذب ولا يريد أن يسمع سواه، هذه صيغة المبالغة هكذا. صيغة المبالغة مبالغة من ماذا؟ قلنا مرات عديدة من اسم الفاعل. ما دامت صيغة مبالغة فإنها تأتي من اسم الفاعل. اسم الفاعل هو سامع، هذا هو اسم الفاعل. أريد أن أبالغ الآن، أريد أنه يسمع ويسمع أصبحوا سامعين أو سماعين أو لا ساعين؟ حسناً، فماذا يفعلون إذن؟ يستمعون إلى الكذب دائماً. ما معنى ذلك؟ أنه جالس وقد قرر ألا يسمع إلا
الكذب. هل هناك شخص هكذا انتكس فارتكس فانعكس قلبه؟ انعكس تماماً وأصبح منفتحاً على الناحية الأخرى. سماعون للكذب... توقف عند "سماعون للكذب" هذه وتخيله كيف هذا حسناً، يسمع مرة واحدة، وبعد ذلك في المرة الثانية يصيبه الاكتئاب. إن الصادق عندما يسمع مرة، وفي المرة الثانية يقلق قلبه، وفي المرة الثالثة يختنق، وفي المرة الرابعة يرفض. لكن بلاء هذا السماع يكون فيه نوع من أنواع الكثرة والموافقة والقرار. هو قد قرر أنه لا يسمع إلا الكذب يصف حال
آخر الزمان فيقول: ثم يفشو الكذب في حال آخر الزمان. ويقول: أرأيت إذا صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ لقد انعكس فارتكس فانتكس، انتهى الأمر. ما بك؟ ماذا تريد؟ يقول لك: أنت - والعياذ بالله - تصلي، هل أصبحت الصلاة جريمة؟ يقول لك: يبدو أنك مسلم ملتزم، وهو يقول يقولها لك كأنه يبصق على وجهك: "أنت لا شيء، وأنا مسلم ملتزم"، هل هذا يعني جريمة؟ يقول لك - والعياذ بالله
-: "أنا رأيتك بالأمس وأنت جالس في الأزهر في مقرأة الله". ما هذه القصة يا إخواننا؟ هل رأيتم كيف صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ هذا من علامات الفساد. الزمان وفساد الناس يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكون من السماعين للكذب. فكلمة "سماعين" هذه والله سيدنا محمد لا يعرف أن يقولها، هذا كلام ربنا والله. ما هذا؟ "سماعون"! هكذا، أليس "سامعون"؟ لا، إنه كلام عالٍ جداً، إنه كلام يشعر به المسلم إذا تدبر القرآن وطلب. من
هداياته أنه من عند الله، كل حرف يدلك على الله. أما الذي يدخل يلعب، "سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، ويقرأ دون التوقف عند رسمه، ولا يأخذ نفسه في التدبر، ولا في أي شيء، بل يلعب، فلا يكون هداية له. "سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من يحرفون الكلام بالتحريف الذي يتم بالزيادة ويتم بالنقص ويتم بالتبديل، أي تبديل كلمة مكان كلمة، ويتم
بالتقديم ويتم بالتأخير. والزيادة والنقص قد يتم في حرف واحد أو في كلمة واحدة أو في جملة واحدة، والتحريف يتم أيضاً في النقل من لغة إلى لغة. كل هذا من أنواع التحريف، يحرفون الكلام والتحريف يكون في الشيء ذاته ويتم التغيير عليه، فهو من قبيل إلباس الحق بالباطل والباطل بالحق، وليس من قبيل الكذب المحض. والتحريف أيضاً قد يكون في تحريف التفسير، فالنص
موجود أمامك ثم يقوم بتحريف تفسيره من غير قاعدة يرجع إليها فيه. والحمد لله الذي حمى المسلمين من تحريف كتاب الله. من عند الله: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". هذه من عند الله، لا حول لنا فيها ولا قوة، ولكن الله سلّم. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.