سورة المائدة | ح 977 | 41 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 977 | 41 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، وعند قوله تعالى: "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه". وقلنا إن هذه الآية فيها من البلاغة نوع احتباك، والاحتباك... نادم في كلام العرب لكنه موجود، قال تعالى: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في
سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين". فئة تقاتل في سبيل الله، الفكرة الخاصة بها ماذا؟ فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، والفكرة الخاصة بهم ماذا؟ وأخرى كافرة تقاتل سبيل الطاغوت يعني حذفنا "تقاتل في سبيل الطاغوت" لدلالة "القتال في سبيل الله" في الجملة الأولى عليها، وحذفنا كلمة "مؤمنة" في الأولى لدلالة كلمة "كافرة" التي هي في مقابلتها في الجملة الثانية، فحذفنا من
الأولى شيئاً يُستدل عليه من الثانية، وحذفنا من الثانية شيئاً يُستدل عليه من الأولى. كلام غير تجده كثيراً في كلام الناس لكنه موجود في كلام الله سبحانه وتعالى أعلى أنواع الكلام. يمكن طبعاً لشخص أن يقلد هكذا، يقلدها، إنما سبحان من أنزل كتابه على أعلى أنواع البلاغة من لغة العرب. يقولون: "إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا". إذاً هذا الكلام في مصلحة، لماذا تأخذه؟
ليست لك مصلحة فيه، فاحذر كلام المنافقين، لأنهم ربطوا الأمر بمحض المصلحة ولم يربطوه بالمبدأ. عندنا قضيتان: المبدأ والمصلحة. سيد الخلق يعلمنا كيف لا نفرط في المصلحة ولا نفرط في المبدأ. والذي يحدث عند الساسة أنه يصعب عليهم أن يحافظوا على الاثنين جميعاً، فتراهم غالباً ما يضحون بالمبادئ
في سبيل المصلحة حتى شاع أن السياسة نجاسة وأنه لعن الله ساس ويسوس وسياسة ونجاسة. لماذا اكتسبت السياسة هذه السمعة الرديئة؟ لأنه كلما خُيِّر بين التمسك بالمبادئ والتمسك بالمصالح، والتمسك بالمصالح هو واجب الإنسان مع وطنه وناسه، فإنه يضحي بالمبادئ من أقرب طريق للمصالح، وإذا في مرة من المرات ضحى بالمصالح من أجل المبادئ، علل ذلك أنه بعيد النظر وأنه يريد المصلحة العليا
البعيدة، ولذلك ضحى بالمصلحة هذه حتى يتزيا بالمبادئ، على كأنه يتبرأ من المبادئ، وكأن التمسك بالمبادئ عيب. ولذلك لم نرَ مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلمنا كيف نوازن بين المبادئ والمصالح ولا نترك شيئاً منها لنا هذا تأسيساً وجعلنا على أرضية صلبة بحيث أننا لا نفرط في المبادئ لدينا ولا نفرط في المصالح لدينا أيضاً، وليس هناك تناقض بين المبادئ وبين المصالح. هذه الآية
تصلح لوضع أسس سياسية للعقل السياسي المسلم المفكر، حيث إنه يُوجَّه بأن مما لا يرضي الله. ولا رسوله ولا المؤمنين أن يقول إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا وأن هذا هو نوع من أنواع الفتنة والاختبار والامتحان التي ينبغي على المفكر السياسي ألا يقع فيها ولذلك قال ومن يرد
الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً يعني من يريد الله ضلالته وإضلاله فلست عليه بوكيل ولا حفيظ ولا مسيطر، ماذا ستفعل له إذاً؟ هذا أمر لنا بالتربية الفكرية والسياسية أن نربي أبناءنا على كيفية المحافظة على المبادئ والمصالح معاً، وأننا لا نرجح إحداهما على الأخرى، لأننا لو رجحنا المبادئ لضاعت المصالح وفي هذا تضييع للأمة، ولو رجحنا المصالح لضاعت المبادئ وفي هذا تضييع. للرسالة ونحن لا نريد لا أن نضيع الرسالة ولا أن نضيع المصالح،
كيف هذا؟ هذا يجب أن يؤثر على مناهج التعليم وعلى طريقة التفكير المستقيم وعلى التدرب على توليد هذا وإبداء الأفكار فيها، حتى يصبح المؤمن عالماً بزمانه، مدركاً لشأنه، قادراً على التفكير كما ورد في الحديث النبوي الشريف فيما. أخرجه ابن حبان في نصيحة آل داود أن يكون المؤمن مدركاً لشأنه عالماً بزمانه. أخرجه ابن حبان. إذاً القضية واضحة، والنبي صلى الله عليه وسلم فعلاً تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ربما كثير من قارئي القرآن عندما يقرأ هذا قد لا يفهمه أو يحصّله. في مسألة
ضيقة، ماذا تعني "سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلمة من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً"؟ يعني هل يقرأها هكذا وهي غامضة عليه أو يقرأها ويحصرها في تحريف اليهود للتوراة؟ لا، ليس هذا كتاب هداية، هذا كتاب يبني العقل، هذا كتاب يرسم منهجاً، هذا كتاب يُري معالم الطريق إلى الله، هذا كتاب عظيم جداً. أنت هكذا بهذا الشكل حصرته في معنى واحد، لا، إنه له معانٍ متسعة ووجوه
مختلفة، والقرآن حمّال أوجه، هذه الوجوه نستفيد منها، وهل الذي فسرت به أنا الآن. الآية مقبولة، بل وفُهمت بها العبارة، وانفك بها الإشكال، وزال بها الضباب. إلا أن سيدنا علي - عندما سألوه: هل معكم شيء غير القرآن؟ - قال: "إلا فهماً يؤتاه الرجل منا في القرآن". يعني ربنا يفتح هكذا ويفتح له لأنني أريد الاستفادة منه، أريد أن أهتدي بهديه. يقول تعالى: "هدى أن نكون منهم يا رب. افتح لي الآن، أنا داخل أريد أن أستفيد. حسناً، العجب العجاب أنك
لو جلست تتأمل لرأيت معنى آخر لا يناقض هذا ولا ينقضه. نعم، كيف يكون الاثنان صحيحين والثلاثة صحيحة أيضاً؟ وهذا ما يسمونه اختلاف التنوع. لماذا؟ لأن كل كلام هو كلام الله. جالس غير لماذا لا تنتهي عجائبه ولا يَمَلُّ من كثرة التكرار؟ لأنه نسق مفتوح، نسق مفتوح، وهذا النسق المفتوح يعطيك كل ما طلبت الهداية وكل ما اتقيت الله سبحانه وتعالى معه. أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فالقضية قضية مناهج وعقول، والباب يبنيها ربنا
سبحانه وتعالى لهم في... الدنيا خزي بالفشل أو بأن يكونوا مع المدمرين لا مع المعمرين، فهناك معمر وهناك مدمر، ولهم في الآخرة عذاب عظيم لأنهم لم يقفوا عند التكليف ولم يريدوا من ربهم التشريف. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
    سورة المائدة | ح 977 | 41 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة | نور الدين والدنيا