سورة المائدة | ح 978 | 42 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى، وهو يعلّم المؤمنين إلى يوم الدين، واصفًا أولئك الذين يسمعون الكذب من الداخل في الجبهة الداخلية ومن الخارج في الجبهة الخارجية، ويتبعون مناهج لا يرضى عنها الله ورسوله ولا المؤمنون. يصفهم مرة ثانية فيقول: سمّاعون للكذب أكّالون للسحت. وهنا يربط سبحانه وتعالى بين الانحراف القولي وهو الكذب، والانحراف
السلوكي وهو أكل السحت. والسحت يُطلق على كل حرام، وما دام هو يكذب على نفسه وعلى مجتمعه وعلى الناس، فإن هناك استدراجاً من الله له أن. يصل الكذب من مقاله إلى فعله وأعماله ويصل إلى أن يأكل السحت، وأكل السحت هو أكل الحرام الذي يأتي من السرقة ويأتي من الرشوة ويأتي من الاختلاس ويأتي من اغتصاب مال الغير ويأتي من الربا ويأتي من حلوان الكاهن أو مهر البغي أو ثمن
الكلب أو كل بيع فاسد أو أجر النجس سحت، كلمة جامعة لأكل الحرام. أكل السحت يعني نبت جسده من الحرام. حسناً، وماذا يعني ما ينبت من الحرام؟ نحن لا نميز، فهل الذي أكل من السحت مكتوب على جبهته أنه أكل من السحت؟ قال: أكل السحت يمنع استجابة الدعاء، فإذا كان أخونا الذي سمع الكذب... فنوضح كذبه إلى أن آكل الحرام انفصل عن الله وأصبح مع نفسه. لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي
الدعاء: "اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أو أقل من ذلك، أقل من طرفة عين". ماذا يعني عندما يتركنا لأنفسنا طرفة عين؟ نفنى ونهلك. لا حول ولا قوة. إلا بالله، إذا قطع عنا الإمداد سقط الاستعداد وذهبنا إلى البوار والهلاك. نحن قائمون بالله وهو قيوم السماوات والأرض. "أكّالون" صيغة مبالغة، يعني ليس من أكل الحرام مرة وتاب، بل هو من استمرأ الحرام وأكله مرة بعد مرة واستحل هذا الحرام ونبت جسده
من حرام. يقول رسول الله: "فالنار أولى نبت من حرام فالنار أولى به. ويقول في شأن انقطاع آكل الحرام عن الله: يمد يديه إلى السماء "يا رب، يا رب" ومأكله حرام، ومشربه حرام، وغُذي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذاك؟ فيدعو فلا يستجيب ربه له. إنه يستغفل نفسه فينقطع عن الله، قائلاً: "ما من فائدة، لقد دعوته". وما يستجيب هكذا يقول هذا الإنسان أدعو ربي ولا يستجيب فيتركه، فلما
يتركه ينفصل عن ربه، فإن جاؤوك تجدهم أيضاً هكذا في وقاحة بعدما استمع إلى الكذب واستساغ الكذب وجعل كذبه غطاءً على فعله، فأكل الحرام واستساغ أكل الحرام، ثم يأتي إلى سيد الخلق بوقاحة شديدة، لقد قطعت الطريق وتأتيني. لماذا تتحرش بي؟ لماذا؟ ولكن لا وقاحة، والوقاحة هذه باقية إلى يومنا هذا. تراه يفعل المعاصي ويشرب الخمر ويتفلت كل تفلت، ثم بعد ذلك يأتي يتملق. "فإن
جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، فإن جاءوك فاحكم بينهم". هم يأتون الآن يلتمسون النصيحة، يلتمسون الحكمة، يلتمسون الخير، يلتمسون المنفعة، يلتمسون المصلحة. يلتمسون فأعطى الله السلطة لنبيه ولورثة الأنبياء من العلماء بعدهم أن يقدروا الأمور بقدرها، نزن الأمر إذن، فإن كان في الحكم بينهم ولهم خير نرجوه وتوبة نأملها وهداية نلقيها في طريقهم
لعلها أن تهدي قلوبهم فعلنا، فنحن نريد له الهداية، وإن رأينا غير ذلك من أن هذا يريد أن يتلاعب. بي وأن يجعلني أداة ليصل لغرض آخر، فالمؤمن كيِّس فطن منوَّر القلب، حتى قيل: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. وكان عثمان صاحب فراسة، سيدنا عثمان ذو النورين، الذي تزوج البنتين: السيدة رقية والسيدة أم كلثوم عليهما السلام، ابنتي النبي، فسمي بذي النورين. وقال له: والله لو كان عندي ثالثاً، أي صريحاً للزواج لزوجتك، تستحي منه
الملائكة. متألق حتى قال عندما أنفق النفقة الكثيرة في جيش العسرة: "ما ضرَّ ابن عثمان ما فعل بعد اليوم". فازداد تقوى، أي لو بعد هذه النفقة التي أنفقتها يا عثمان، فعلت الذنوب التسعة، والتسعة هي الموبقات التي يغفرها الله. فما زاده إلا أنه استشهد وهو يقرأ القرآن، وها هم الناس "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا". أحيانًا يفكر المرء ويقول: اتقِ شر الفاسق، وهذا فاسق قادم إلي، وإذا لم أتساهل معه
قليلًا، فسيستخدم فسقه في هجائي وسبي وقذفي. وفي تشويه صورتي أمام الناس ماذا أفعل يا ربي؟ شرُّكم من يُتَّقى من أجل فسقه، فيقول له: "لا، لا تخف، أعرض عنهم ولا يهمك، ونحن سنتولى الأمر". حسناً، إذاً الطرف الثاني إيذان بحرب من الله. انتهى الأمر، دعهم لأن هؤلاء أمام ربنا، حكم عليهم بأنه هو. سبحانه وتعالى جلّ جلاله يخاصمهم في الدنيا ليس في الآخرة. هذا وضع آخر. نحن هنا في الدنيا
سنرى في الدنيا. وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً. "لم" هذه للتأكيد، وهل هي للتأبيد؟ كلام بين علماء اللغة، لكن أهل السنة يرون أنها ليست. للتأبيد وإنما هي للتأكيد، تأبيد يعني فلن يضروك شيء أبداً. لا، ليس دائماً هكذا، الاستعمال العربي يأتي هكذا وهكذا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إياك أن تنسى العدل بالرغم من اضطرابهم. إن الله يحب المقسطين، حقيقة كبرى عظمى مستمرة إلى يوم الدين. ما دام الله يحب العدل ويحب
القسط ويحب نستطيع أن نتخلى عن مبادئنا من أجل إيذاء المؤذين، وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.