سورة المائدة | ح 980 | 44 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وعند قوله تعالى: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور"، يصف ربنا سبحانه وتعالى كتابه الذي أنزله على سيدنا موسى فيقول: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، فالإسلام عندنا دين. كل الأنبياء من لدن آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليهم جميعاً وسلم تسليماً كثيراً كلهم أسلموا وجههم
لله وأسلموا أمرهم لله يحكم بها النبيون فحكم بالتوراة أنبياء بني إسرائيل كان كل نبي يأتي يحكم بالتوراة ولما سمع ورقة بن نوفل القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم قال والله إنَّ هذا والذي أُنزل على موسى خرجا من مشكاة واحدة. أنا أسمع ما هذا الكلام! كأنني سمعته قبل ذلك ولكن لم أسمعه. الله! إن هذا عليه نور كأنه هو والتوراة
خرجا من مصدر واحد. سيدنا رسول الله لم يرَ التوراة ولم يقرأها، ولم تُترجم التوراة بعد. حينئذ ولذلك لم يكن في استطاعته نسخ التوراة حتى يتعلم، حتى لو كان قارئًا، فما بالك وهو لا يكتب ولا يقرأ. كفاك نعمة بالأمي معجزة، فالأمية نقص لكنها في حق رسول الله معجزة. لماذا؟ لأنه منقطع الموارد، لا يوجد أحد يعلمه. "إنما يعلمه بشر"،
لا يوجد لا بشر ولا... كتاب لا أحد يعرف أن يعلمه الذي علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى، ربنا هو الذي علمنا. واتقوا الله ويعلمكم الله، إذا كان ربنا للمتقين يعلمهم فما بالك بالمصطفين الأخيار، فسيدنا محمد كان لا ولا يقرأ "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون"، فتكون "الربانيون" معطوفة على كلمة "النبيون". كلمة
"النبيون" هذه مرفوعة، و"الربانيون" مرفوعة، فيكون النبيون يحكمون والربانيون يحكمون. لو كانت معطوفة على "الذين هادوا" لقالت "الذين هادوا والربانيين" لأن "للذين هادوا" هذه في موضع. كسر لكن هنا الذي يحكم النبيون والذي يحكم الربانيون وهذا يعلمنا أن الشريعة دائمة وأن الشريعة يحكم بها النبيون ويحكم بها الربانيون لأن بعض الناس الآن يقول لك لا هذا القرآن كان زمانه جبر كان على أيام النبي يحكم به النبي لا مانع هو قرآن وهو من أقسم بالله والنبي، هذا أيضاً من عند ربنا، لكن
لا شأن لكم بنا الآن. لا، هذه شريعة الله دائماً كانت وستظل إلى يوم الدين، يحكم بها النبيون ويحكم بها الربانيون والأحبار. الأحبار هم العلماء، من أين جاءت كلمة "أحبار"؟ جاءت من أنهم يشتغلون بالعلم مع المحبرة إلى المقبرة، يشتغل بالعلم جاءت من الحبر، حبر الآية المداد. أحبار جمع حبر أو حبر، وسمي العالم حبراً
أو حبراً بناءً على أنه يستعمل الحبر والمداد في كتابته. يقول ابن العصام في حاشيته: والحبر بالكسر فصيحة، ليس حبر فقط بل حبر أيضاً. تشير إلى مصدر الكلمة من أين جاءت كلمة "حبر" هذه. كلمة "حبر" فصيحة فيها، يعني سُمي العالم باسم المادة التي يستعملها لتسجيل علمه في أوراقه. "أحبار" هذه لو نقولها بلغتنا الحالية والأدبيات المعاصرة نقول "الأكاديميون". ماذا يعني أكاديميون؟ مثل الجامعة، هؤلاء الأكاديميون الذين يعملون بالعلم. حسناً، وأما
الربانيون، فالربانيون هؤلاء كانوا يحفظون. يعبدون ولديهم شفافية ولديهم نوع من أنواع التقوى ولديهم نوع من أنواع الورع ولديهم نوع من أنواع معرفة السلوك إلى الله. تستطيع أن تقول عنهم مشايخ، هؤلاء هم الربانيون والأحبار. الأحبار يعرفون اللغة ويعرفون قواعد الاستنباط ويعرفون هذه الأمور. مصدر حكم الربانيين التوراة، ومصدر خدمة الأحبار التوراة، وهكذا كانت الشريعة ولذلك كان القرآن الكريم
وهو كتاب الله سبحانه وتعالى الأخير للعالمين محور الحضارة الإسلامية، فخُدم خدمةً كلّفت علوماً لدراسته وشرحه ونقله وتفسيره وتبليغه والنطق به والحفاظ عليه. علوم خُدم ثم جُعل مصدراً وجُعل حَكماً، يبقى إذاً منه وإليه والخدمة دائرة عليه. هذا هو المحور ومعناه هكذا شيء هكذا هو. محور عامود يدور حوله كل شيء، الحضارة كلها تدور
حوله. هكذا فعلوا في القرآن وخدموه خدمة جليلة، فكتبوه وأصبحت هناك علوم لشكل القرآن، وعلوم لنقط القرآن، وكذلك علوم لتجويد القرآن، وهناك علوم لتفسير القرآن. وعلوم القرآن كثيرة، إلى أن جمعها وجمع رؤوس أقلام فيها الإمام الزركشي. في البرهان في علوم القرآن والإمام السيوطي في الإتقان في علوم القرآن فتكلموا عما نزل ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً
وأرضاً وسماءً. شيء توسع هكذا وألَّف المؤلفون في تفسير القرآن من كل جهة. لدينا الآن أكثر من مائتي تفسير مطبوع ولدينا آلاف التفاسير المخطوطة ثم إنه بعد ذلك والتفسير. يصنع الواحد منهم ثلاثين جزءاً أو عشرين جزءاً، فهذه مطبوعات تفسير القرطبي عشرين جزءاً، وتفسير الرازي ثلاثين جزءاً، وهكذا لا تنتهي عجائبه ولا يَخلَق من كثرة الرد. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.