سورة المائدة | ح 983 | 45 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى في شأن بني إسرائيل، والمقصود أنه يعلمنا نحو العدل والعدالة: "وكتبنا عليهم فيها"، عليهم يعني على بني إسرائيل، فيها يعني في التوراة التي هي. هدى ونور أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص. وكتبنا
عليهم فيها هذه المساواة أن الشخص الذي يقتل يُقتل، والذي يصيب أخاه في عينه أو أنفه أو أذنه أو سنه فإنه يجازى بالقصاص، وهو أن يوقَع عليه مثل ما أوقعه من الضرر والنقصان على أخيه فمن تصدق به ففتح باب العفو، فمن تصدق به تصدق بهذا القصاص لم يُرِد أن ينزل بأخيه مثل ما حدث عنده من الضرر فهو كفارة له، إن الله
لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولذلك عفوك عن أخيك سيكون من العمل الصالح ولك به أجر عند الله يتمثل. في تكفير الذنوب، فيوم القيامة تجد نفسك وتجد صفحة كتابك بيضاء من الذنوب بموجب ما عفوت به عن الناس، لأن هذا المعتدي بعد أن قُبِل عليه أصبح في كربة وفي ضيق وفي خوف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه". كربة من كرب يوم القيامة، هذا
المعنى يأخذ في بنيان عقل المؤمن ونفس المؤمن، يبني نفس المؤمن ويبني شخصية المؤمن أن يكون مستعداً وجاهزاً للعفو والصفح والتسامح وغفران الذنوب والتجاوز مهما كان الأمر. وسيد المرسلين يضرب لنا المثل الأعلى في هذا، فكما اعتُدي عليه ووُصف من قبل السفلة بأنه ساحر. وأنه مجنون وأنه كاهن وأنه مفترٍ وأنه كذاب وأنه كذا وكذا وهو مظلوم في كل ذلك، والظلم ظلمات يوم القيامة. وهذا
الظلم الواقع على سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يُعلي عند الله درجته أكثر مما هي عليه، فإن الفضل لا نهاية له، ولذلك لا يزال نبينا يترقى وهو عند رفعه الله في درجات عليا لا نهاية لها من كل ظالم أفّاك ظلمه أو سبه أو شتمه أو انتقصه أو حجب الناس عن الإيمان به أو عطل سنته صلى الله عليه وسلم أو شوه صورته صلى الله عليه وسلم. يزداد رفعةً عند الله "إنا كفيناك المستهزئين". سيدهم خلهم، فأصبح الناس قسمٌ يصلي عليه ويطلب له الرفعة فيرفعه الله، وقسمٌ يعتدي
فيرفعه الله. هذا هو سيدنا محمد، فمن أراد أن يكون مثل هذا وأن يجعله أسوة حسنة فليدرب نفسه على العفو وعلى السماح، فهو كفارة له. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، فربنا سبحانه وتعالى لما أرشدنا إلى أرشدنا إلى عين العبد. بعض المفكرين المحدثين فكروا وقالوا: ينبغي أن نبتعد عن جسد الإنسان وأن نحميه، ولذلك لا نريد من العقوبات أن تكون جسدية. وشاع
هذا المذهب في الناس، وهو كلام مخالف لتأصيل ربنا سبحانه وتعالى لتلك المسألة. ربنا يحمي جسد الإنسان ويجعل كرامته والحفاظ عليها ركناً ركيناً في... مقاصد الشريعة في الحفاظ على عرضه وكرامته، فليس هناك مزايدة في رؤية الإسلام لكرامة الإنسان، ولكننا نتحدث عمّن ارتكب جريمة وليس في عموم الناس، ولكننا نتحدث عمّن
ارتكب تلك الجريمة على شخصٍ إنسان. يا الله، أنت الآن منعت إيقاع العقوبة على جسد المجرم، فأين - أيها المفكر - الضرر الذي على جسد المجني عليه الضحية، أو أليس هو إنساناً؟ هنا يحكم ربنا بالعدل وبالقسط، ويجيز ولا يوجب، لكي يفتح باب العفو ويجعله مرتبطاً بأنه كفارة لهذا المجني عليه. فيجيز تسلية لقلب هذا المجني عليه،
ثانياً ردعاً للمجرمين المتكبرين أن يعتدوا على الإنسان، ثالثاً إعلاءً لقيمة الإنسان وأن العدوان عليه. يُعَدُّ تجاوزًا للخط الأحمر فيجب عليك ألا تتجاوز وتعتدي على الإنسان، هذه هي رؤية الإسلام للإنسان، ونراها رؤية مناسبة لكل الأعراف ولكل الناس في كل زمان وفي كل مكان. ولكن هذا الذي يُحَرِّم إيقاع العقوبة على الجسد البشري يراعي
جانب المجرم وينسى إجرامه وينسى جرائمه وعدوانه وأثره على أمن الناس. وعلى قلب المجن عليه إلا أن هذا شاع وذاع في عصرنا الحاضر حتى أصبح كالمسلمات في حين أنه مخالف لكل شريعة أنزلها الله، وهذه حكمة أن يتكلم الله عن هذه القضية منسوبة إلى بني إسرائيل وليست منسوبة مباشرة إلى شريعة النبي المصطفى، فلعل
أحدهم أن ينكر أو أن يتهم الشريعة. المصطفى كما اتهموها بأن فيها عنفاً، هذا نزل على بني إسرائيل، هذا نزل في التوراة، هذا هو الذي أنزله الله شريعةً لسيدنا موسى، ثم أقره في شريعتنا وعلَّمنا إياه عن طريق هذا الشرع المنسوب والنازل على سيدنا موسى. إذاً فهذا الكتاب من عند رب العالمين، لأن محمداً لو كان قد ألف هذا الكتاب لينسب هذا العبد لنفسه أو
لينسبه لنفسه من قبل الله لكنه نسبه لغيره، فهل كانت هناك بين سيدنا النبي وبين اليهود علاقات حميمة؟ لم تكن. إذاً لماذا يفعل هذا؟ لأن هذا من عند رب العالمين وليس لمحمد دخل فيه، وهو يعلم ما سيكون إلى يوم. الدين ويعلم أنهم سيقولون هذا في العالم فأراد أن يبين أن هذا إنما هو في كل شريعة، وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.