سورة المائدة | ح 984 | 45 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، يستمر الله سبحانه وتعالى في تعليمنا بعد أن تكلم عن بني إسرائيل في الكلام على آخر أنبيائهم وهو سيدنا عيسى. قال: "وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم" ويبين. الله سبحانه وتعالى أن موكب الرسل واحد بدءاً من آدم وانتهاءً بخاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. و"قفَّينا" كلمة تدل على الاتصال، وأنه لا يزال
من لدن آدم يرسل الرسل تترى، ويبين البيان، ويشرع، ويوحي، ولا يترك الناس هملاً، ويؤسس للبشرية طريق الله. وقفَّينا فجاء النبي في أثر. النبي صلى الله عليه وسلم ذهب وتبعه الآخرون، فهم يسيرون بالتتابع، يسيرون في صف واحد، وقفنا واحداً خلف آخر، وخلفه شخص آخر، يتبعون آثارهم. القفا هو العنق في أعلى الجسد، والأثر هو أسفل الجسد،
ومن القفا إلى الأثر يكون الإنسان كاملاً، ولذلك في لغتنا العامية حين نريد أن نعبر عن من أساسه إلى رأسه ونقولها هكذا، هو من أساسه إلى رأسه. أساسه يعني من أساسه، الأساس الذي هو الرجلان اللتان هما تحت، يعني من أساسه إلى رأسه. الأساس تحت والرأس فوق، من أساسه إلى رأسه يعني ماذا؟ يعني كله جملةً، وقفينا على آثارهم، يعني جاء النبي
وهو صورة كاملة للنبي أي لم يختلف عنه وقفّينا على آثارهم، يعني لا يوجد أحد خرج عن الطابور ولا أتى بشيء من ذهنه، بل كلهم وكأنهم يتكلمون لغة واحدة وكأنهم قد خرجوا من مشكاة واحدة، لا يناقض بعضهم بعضاً، كلهم يدعو إلى وحدانية الله وإلى الالتزام بطاعته وإلى تبشير الناس بجنة عرضها السماوات. والأرض وقَفَّينا على آثارهم يعني جاءت الرسل على كلمة سواء، يعني مثل بعضها، وقَفَّينا على آثارهم بعيسى
ابن مريم، يكون سيدنا عيسى جاء كحلقة من حلقات الرسل لا يختلف عنها ولا يشذ عنها ولا يدعو الناس إلى ما لم تدعُ له الرسل ولا يخرج عما أقرته الرسل، نريد أن هذا المعنى، هذا المعنى، إلى الآن هو أننا اقتفينا أثرين فهمناه هكذا، لكن ما يؤكد ويزيل الشبهة "مُصَدِّقاً"، هذه الكلمة "مُصَدِّقاً" ماذا نقول عنها؟ إنها تأكيد. لماذا؟ أين وردت كلمة "مُصَدِّقاً" قبل ذلك؟ وقولنا "وقفَّينا على آثاره" معناها أنه كان مُصَدِّقاً، فهذه العبارة يمكن
أن نقول عنها: جاء عيسى مصدقًا، عندما نُفسرها هكذا، جاء عيسى ابن مريم مصدقًا ومصدقًا مصدقًا. عندما نكررها فيها تأكيد، والتأكيد هذا ماذا يعني؟ أنه كان على سبيل الحقيقة لا المجاز. انتبه، في اللغة العربية التأكيد يُخرج المسألة من المجاز إلى الحقيقة. لا يستطيع أحد أن يقول: لا، يعني هو كان مصدقًا لهم مجازًا. ولكن ليس في كل شيء، فـ"مصدقاً" هنا معناها بعد كلمة "وقفّينا على آثارهم"، واعتبرها أنها تأكيد في المعنى أنها حقيقة
لما بين يديه من التوراة. يبقى "ما جئت لأنقض الناموس" كلام سيدنا عيسى لم يأت لينقض التوراة، بل إنه جاء ليؤكد التوراة. هذه التوراة هدى ونور، فكيف بكلمة الله. ينكر الهدى والنور وهذا لا يصلح، وكيف يخالفها وهذا لا يصلح، بل هو جاء مؤكداً ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل. إذاً هو مؤمن بالتوراة كلها، وإن كان لا يعترض عليها فهو يملك زيادة، والزيادة لا تحكم على
الماضي بالبطلان، بل إنها منه تناسب العصر الذي جاء فيه، هدى ونور الله هذا مثل التوراة، يعني ما هي التوراة؟ "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور"، وهنا الإنجيل فيه هدى ونور "ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين". هناك في شأن التوراة بيّن لنا أنه يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، لكن هنا أضاف "وموعظة للمؤمنين" فيبقى... في إضافة الموعظة ترقيق القلب، فالموعظة
ترقق القلب. سنبدأ الآن نتحدث عن قلوب قد لانت بعد أن قست قلوبهم. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، فالمهم هو أن أهل الإنجيل يجب عليهم أن يلتزموا بما أنزل الله فيه، وألا يؤثر هذا الالتزام على ما في التوراة من أحكام ولا... عقائد ولا مفاهيم، وهم لا يأتون بكلامٍ جديد يتعارض مع الناموس الأصلي، خاصةً في الاعتقاد بالإطلاق. فمن الذي يتمسك بالناموس: المسلمون أم
المخالفون؟ ها هو ربنا يقول له: أنا أنزلت التوراة فيها هدى ونور، والإنجيل وفيه هدى ونور وفيه موعظة، وقال: "ومن لم يحكم بما أنزل الله..." الله فأولئك هم الظالمون وهنا يقول ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. إذن من الذي جاء لينقض ومن الذي جاء ليؤكد ما كنا عليه، وأن طابور وموكب الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام هو موكب مبارك أوله لا
ينقض آخره وآخره لا ينقض أوله وأنزلنا. إليك الكتاب بالحق. لنستمر ونرى كيف يسير الموكب. فيه توراة هدى ونور، وإنجيل هدى ونور، وبعد ذلك أُنزل الكتاب بالحق. التوراة بعد أن أضافوا إليها أشياء معينة من سير الأنبياء وأقوالهم سمّوها العهد القديم، والإنجيل بعد أن أضافوا إليه الروايات المختلفة والرسائل وما إلى ذلك هم سمّوه العهد الجديد. بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فسمينا
هذا الكتاب المبارك العهد الأخير. ما هو في العهد القديم مقبول وأنا مؤمن به، والعهد الجديد مقبول وسأؤمن به. حسناً، ما اسم هذا الذي بين أيدينا؟ اسمه العهد الأخير. إذا كنا نريد أن نفهم بعضنا، فهذا هو العهد الأخير، الكلمة من رب العالمين للأرض ولعباده أجمعين، إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.