سورة المائدة | ح 988 | 49 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وعند قوله تعالى والحكم بينهم بما أنزل الله، عرفنا أن المسلمين في العصر الحديث، وقد أجمعوا عبر القرون على أن الحاكم هو الله، قبلوا بفصل السلطات التنفيذية والقضائية. والتشريعية على أساس واحد نصّوا عليه في دستورهم وهو أنهم مسلمون وأنهم ملتزمون بالتشريع الإسلامي، ولذلك كوّنوا ما أسموه بالمحكمة الدستورية العليا تراقب دستورية ما يصدر
من القوانين، ومما تراقب عليه فيما إذا كان القانون الذي صدر من المجلس التشريعي يوافق الشريعة الإسلامية أو لا يوافق، والشريعة الإسلامية ثرية واسعة. مبهرة لأنها مرنة قد تجاوزت الزمان والمكان، ولذلك اعترف بها في لاهاي باعتبارها مصدراً من مصادر التشريع العالمي، وساهم في هذا الشيخ محمود شلتوت، وكان فقيهاً عالمياً أبهر ببحثه هؤلاء. هل ستنسى الفقه الإسلامي والتشريع الإسلامي بما فيه من قواعد وبما فيه من أصول وبما فيه من مدارس وبما فيه. من مناهج مصدراً للتفكير
المستقيم لدى القانونيين في العالم، وكل هذا إنما هو تنفيذٌ وتطبيقٌ من المسلمين لأمر الله عندما يقول: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، فتصدروا للحكم ووضعوا قواعد العدالة وأسس القسط بين الناس، وضُرب بهم المثل في عمق تفكيرهم وفي تنوعه وتعدده، فنرى المدرسة المالكية كالمدرسة الذاتية. الشخصية اللاتينية، ولقد استفادت تلك المدرسة اللاتينية الفرنسية من المنهج المالكي الذي شاع في المغرب العربي وفي الأندلس حتى
سرى إليهم وكوّن عقولهم، فرأينا تشابهاً بين مذاق الفقه المالكي وبين مذاق القانون اللاتيني. وكان الإمام الشافعي صاحب المدرسة الموضوعية التي تهتم بالموضوع دون النظر إلى التفتيش في النيات وفي الدوافع. وفي الأغراض بل إذا استوفى الأمر أركانه أحلّه، وإذا فقد شيئاً من ذلك أبطله، وهي عين المدرسة الجرمانية، وكأنه مستفاد منا عند الاتصال من قبيل قبرص ومالطة وصقلية. وقد كتب
العلماء في انسياب هذا الفكر وكيف أثّر في التكوين العقلي لهؤلاء عن طريق تلك البؤر والمراكز في سردينيا ومالطة وقبرص وذهب هذا إلى المدرسة الجرمانية، ولذلك عندما قام الشيخ مخلوف المنياوي بالمقارنة بين المدرسة الفرنسية والفقه المالكي، وجد أن الفرق بينهما قليل، وكتب هذا في كتاب ماتع في مجلدين اسمه "المقارنات التشريعية". وكان الشيخ مخلوف، رحمه الله تعالى، إماماً من أئمة الأزهر الشريف في أواسط القرن التاسع عشر، أمر
من... قَبِلَ الخديوي إسماعيل أن يفعل هذه المقارنة فكتب كتاباً في مجلدين وأثبت فيه وجوه المشابهة وحُفِظَ هذا الكتاب حتى تم إخراجه أخيراً من سنوات قليلة ووفقنا والحمد لله في إصداره، وكان مجهولاً. فجاء عالم أزهري آخر درس في الأزهر الشريف وهو عبد الله بن حسين التيجي وأخذ رسالته من السوربون. ثم قارن مرة ثانية دون علمه بما فعله مخلوف المنياوي فصدرت كتاباته تحت نفس العنوان "المقارنات التشريعية" في أربع مجلدات سنة ألف وتسعمائة ثمانية وأربعين، يُثبت فيها
أن الفقه الإسلامي قد أثّر في تكوين العقلية القانونية العالمية. وذهب إلى مثل هذا ووسّع في الكلام الدكتور عبد الرزاق السنهوري عندما وُضِع القانون المدني المصري وروعي فيه أن يكون مناسباً وملائماً في صياغاته لمشكلات العصر من ستة عشر تشريعاً منها الهندي ومنها الأمريكي ومنها البلجيكي ومنها الإنجليزي والجرماني ومنها اللاتيني، ومن ستة عشر تشريعاً، وكان من أذكياء العالم وعباقرة الزمان، ولم يخرج عن الشريعة الإسلامية عندما
نص على فوائد في القانون. المدني واعترض عليه بعضهم، ألّف ستة مجلدات هي مصادر الحق يبيّن لهم فيها أن هذا وجهة نظر فقهية وليس خروجاً عن الشريعة الإسلامية. ولما وضع المصريون دستورهم في سنة ألف وتسعمائة ثلاثة وعشرين، ساهم في صياغته الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية، والذي أنهى عمله في سنة ألف. وتسع مائة وعشرين من ثلاث سنوات أُحيل على التقاعد، نحن نتحدث في ألف وتسع مائة ثلاثة وعشرين، وكان من اللجنة التي صاغت هذا الدستور، فنص فيه في المادة ستة وأربعين على أن هذه البلاد
إنما تتبع الشريعة الإسلامية وهي ديار إسلام وأمن وأمان إلى يوم الدين، وظلت كل الدساتير فيما بعد في ستة وخمسين وسبعين وكذا وتسعة وسبعين وثمانين وكذا كلها تنص بوضوح على أننا نحكم بما أنزل الله، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين. وبعض الناس يحاول أن يحيد بنا عن الطريق المستقيم وينسى هذا الواقع وينسى هذا التاريخ وينسى هذا المجهود الجبار الذي فعله وقام عليه. مسلمون أدّوا أماناتهم أمام الله وأمام البشر، وأن
أحكم بينهم بما أنزل الله. الحكم صعب، ولذلك فإن كل طرف من أطراف الناس يحاول أن يأخذنا إلى جهته. فأتى الأمر الثاني في صورة نهي واضح: "ولا تتبع أهواءهم". يعني ما علاقة ألا نتبع الهوى بقضية الحكم؟ هو أول ما تأتي لتحكم. ستجد أناساً يريدونك ألا تحكم، وأن ينحرفوا بك عن صراط الصلاة المستقيم، وأن يشتريك كل أحد. العلماني يريد أن
يجعلنا علمانيين، والأجانب يريدون أن يجعلونا غربيين، والمضاوية يريدون أن يجعلونا مضاويين، وهكذا. فربنا يحذرنا ويقول لنا: وأنت تحكم وقد بدأت في الحكم فقد بدأت في المشكلات. وينبه سيد الخلق ومن نتبع أهواءهم ونمشي هكذا بما يرضي الله. قد يكذبك أحد من هنا ومن هناك، لكن العمل مستمر. إنه لن يسكت، يريد أن يظهرك هكذا: مرة يصفك بأنك رجعي، ومرة يصفك بأنك مجنون، ومرة يصفك بأنك مختل، ومرة يصفك بأنك جاسوس، ومرة يصفك... والشعب هو الشعب، أهذا جاسوس
أم مجنون؟ لا، ديننا هنا وجلبابنا هنا ودستورنا هنا وقوانيننا هنا والعينة أظهرت ويأتي الثالث واحذرهم يعني سيعملون خططاً وسيتلاعبون بك واحذرهم ليكون في هذا المقام مراوغة قليلة هكذا أن يفتنوك هذا الكلام موجه إليكم وهو نزل على سيد الخلق لكنه له احذرهم أن يفتنوك سيلف ويدور عليك حتى يفتنك عن بعضه وليس كله، فما هو إلا التلبّس والتدليس، يترك لك جزءًا ويريد أن يأخذ جزءًا آخر عوضًا عنه. لا، ليس فيها بعض ولا كل، بل ما أنزل الله إليك. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.