سورة المائدة | ح 989 | 49 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، وربنا سبحانه وتعالى يأمر نبيه ويوجهه: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك". وربنا يقول: "أفتؤمنون ببعض". الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يُردُّون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون. إذاً فمن
آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب، وأخذ بعض الأحكام وترك بعض الأحكام، يؤدي إلى خلل وإلى عدم الوصول إلى المقصود وإلى عدم تحصيل. المطلوب وهذا هو الخزي، ولذلك من أحدث هذا في نفسه أُصيب بالخزي في الدنيا. ولكن هذا أيضاً نوع من أنواع اتباع الهوى، ونوع من أنواع الاعتراض على الله، ونوع من أنواع الكفر في نهاية الأمر. فإنه ما فعل وأظهر الإيمان بالبعض إلا لأنه موافق لهواه، وما كفر وردّ. بعضه الآخر إلا لأنه يعارض مصالحه
وشهوته، ولذلك فهو في الجملة يرفض الجميع ولا يتبع نفاقاً إلا بعضاً، ومن هنا استحق العذاب الشديد في الآخرة. في الدنيا خلط قبيح وفي الآخرة عذاب شديد. ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا القضية إنك مهما. وعدتُ ومهما قلتُ فإن الأمر هو اختلاف رؤى. هو أصلاً يريد تنحية أن الله هو الحاكم، لا يريده أصلاً من الأساس، ويريد أن يجعل الإيمان شخصياً لا مجتمعياً.
يقول لك: إيمانك الخاص بك، صلِّ في المسجد، صلِّ في الكنيسة، الإيمان بين الشخص وربه، ليس له علاقة بالمجتمع، هذا المجتمع لا له بالإيمان، نحن لا نقول إن المجتمع له علاقة بالإيمان، فإذن الرؤيتان مختلفتان. فكلما استمع إليّ لن يقتنع بي إلا إذا اقتنع بالرؤية الأصلية العقدية الأولى، وهي أن الله هو الحاكم وأن الإيمان مسألة فردية ومجتمعية. أما إذا رأى أن الإيمان ليس مسألة مجتمعية فسيتعجب: أنتم ما الذي دخولكم في هذه القضية، مرة سألني
أناس يقولون: "أنحرق الأرز ونلوث البيئة وهو حلال أم حرام؟ أنت حرام". فقلت: "طيب، لماذا تقول حرام؟ ما شأنك؟" أنا لست فاهماً. أنا أفهم لكنني أرى نفسي هكذا. يا الله، ماذا تريد أن نقول للناس؟ حيرة. وقال لي: "لا، أنا أريدك أنت". أن تصمت ليس مطلوباً، ما حدث في مسألة الحلال والحرام في الدولة المدنية أن الإيمان ليس له وجود مجتمعي بل له وجود فردي. لكنك بهذا الشكل جعلته وجوداً مجتمعياً وهذا غير مقبول. حسناً، ماذا ستقول في حرق الأرز؟ قال: لا، أقول إنه يجب على الحكومة أن تسعى إلى منع حرق أوقاته وربما
وكذا ونقول كلاماً ونشتم في الحكومة والحكومة تشتم فينا وهكذا. حسناً، وأنا لا أقول حلالاً وحراماً. قال: لا، دعك أنت من الحلال والحرام، ما شأنك أنت بالأرز والقش وما إلى ذلك، يعني أنت ستتفق معي في النتيجة في النهاية. قال: نعم سأتفق معك، لكن لا تجعلني أسكت، في الصلاة والصوم فقط قال لا، والطهارة أيضاً، والصواب والحجة والكفارات والأيمان، لكن ما شأنك بغير ذلك؟ بالله عليك أنا لا أفهم، عندما تقول ما أقوله أنا أُقيِّدك هكذا. قال لي: أنا لا أريد أن أُقيِّدك يا أخي. لا أريد تقييدك، إن تقييدك سيُربك الأمور. قلت له: لماذا إذن؟ قال لي: "لأن الإيمان مسألة فردية وليست مجتمعية"، فقلتُ
له: "لا، بل هي فردية ومجتمعية"، فقال لي: "لا، فردية فقط وإلا ستُربك لنا الأمور، فهو عندما يسمعني لن يقتنع مهما ألقيتُ من مواعظ ومهما بكيتم أنتم من المواعظ أيضاً هو..."، وبعد ذلك أنت تتعجب: "يا الله، هذا الرجل، هذا كلام أبكي، ولكن هو لا يبكي لماذا؟ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. فأنت أو الله هو الذي يُقال له هذا الكلام، لا يتزعزع. قالوا يتزعزع لو كانت القضية أنهم يعرفون أن الإيمان مجتمعي يتزعزع، لكن الإيمان ليس مجتمعياً، سيقول له شكراً، أنا ذاهب، فإن تولوا فاعلم.
إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. عندما يسير، يكون الحال هكذا. وعلى فكرة، هو مطمئن القلب. وعندما ذهب من عندي وتولى، ذهب ليصلي ركعتين في المسجد صلاة الصبح. هل تنتبه؟ لقد صلى وهو مطمئن، لكن القضية ليست صلاة وصلاة، القضية هي: هل الإيمان فردي أم فردي ومجتمعي؟ هذا هو. القضية وحُكِمَ بينهم بما أنزل الله، فإن تولوا بعد هذه النصائح الثلاث، وأعرضوا، ماذا نفعل؟ فاعلم وتيقن أن
هذا من أمر ربنا. ولماذا هو غير راضٍ أن يؤمن؟ إنها مسألة واضحة وليس عليه شيء. إنه غير راضٍ أن يؤمن بما تقوله، وهذه مسألة تخص ربنا أنك... لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. وجهة نظره هكذا، وثقافته هكذا، واطلاعه على تبادل الأفكار والمبادئ هكذا. حسناً، ماذا سنفعل؟ دعها على الله، فما على الرسول إلا البلاغ. يعني ربنا لم يرسلنا عليهم حافظين ولا وكلاء، بل بما أنت عليهم بوصي. دعهم وشأنهم، فهم يريدون أن يقرؤوا في عقليتك ومقول ما هو؟ "فإن تولوا فاعلم"، هذا
العلم هو من أعمال القلب وليس من أعمال السلوك والجوارح. القلب، ماذا يفعل في السلوك؟ لم يقل ماذا تفعل في السلوك، وإنما قال أن قلبك أنت يتيقن. وما فائدة هذا اليقين؟ أنك لا تتبعهم وأنك لا تهتز. إنك لا تحزن، إنك لا تتعطل من سيرك. فاعلم، اعلم، هذه هي التي حيَّرت الدنيا، لأنهم أيضاً يقولون لك: "الله، لماذا أنتم عنده هكذا؟ أنتم غير راضين أن تتركوا ما أنتم عليه". لأن ربنا قال لي فعلاً: "أنا علمت، علمت". يعني ماذا؟ أيقنت. حسناً، وعندما أنا أيقنت... ما أنا ثابت على ما أنا عليه. الله، إنك عنيد يا جدي. حسناً، دعك من حكاية الإيمان المجتمعي هذه.
لا أستطيع، لأنه قال لي "فاعلم"، "فاعلم أن"، "فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم". سيعتبر هذا في النهاية ذنباً ويحاسبني عليه، وإن كثيراً من الناس... وانظر إلى الإنصاف. وانظر إلى الدقة وتأمل الكلام الذي لا تستطيع أن تجد خلفه عيباً، كما يقال. لم يقل "وإنهم لفاسقون"، وإلا لكان قال لك مباشرة: أنتم تشتموننا، أنتم تسبوننا، أنتم تفعلون بنا. ليس هناك [مجال للاعتراض]، بل قال له ماذا؟ "وإن كثيراً"، ولم يقل "منهم"، بل قال "من
الناس"، ها، وكل شخص على نفسه وأن كثيراً من الناس لفاسقون وأن كثيراً من الناس لم يجعله منهم وهو قادر سبحانه وتعالى أن يكون منهم، لكن هذا إنصاف. ولذلك قلت لك: ذهب وصلى ركعتين وهو مخطئ، وليس فاسقاً، يعني واحد منهم، لكنه مخطئ، وهو مقتنع بذلك. ولذلك الذي مقتنع بذلك... لعله وجد أن الله هداه في النهاية وبدأت الأمور تتضح له، لأنه كان يظن أن الإيمان المجتمعي هذا يؤدي بالدنيا إلى الهلاك، فوجد أن الدنيا ستذهب إلى الهلاك بدونه، فعاد مباشرة ليقول: "لا، أنا معكم"، لأنه مخلص، فحقق نهايته هذه، وأن كثيراً من الناس ليسوا منهم بل هم فاسقون.
نعم، فإذا كان هذا من عند الله، هذا الكلام، فإنه يربينا على الإنصاف وعلى الهدوء النفسي وعلى الاستمرار على الحق وعلى أن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يفتح علينا وأن يعلمنا مراده وأن يثبتنا على الحق في وسط هذا الظلام المدلهم الذي نعيش فيه. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله عليكم السلام ورحمة الله