سورة المائدة | ح 990 | 50 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 990 | 50 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ على سبيل السؤال، والسؤال يحتمل في نفسه أن يكون إنكارياً. عندما ترى شخصاً ما غداً لديه امتحان وهو جالس يلعب كرة، فتقول تلعب دور المستنكر عليه، فالسؤال قد يكون استفهامياً وقد يكون إنكارياً. فرب العالمين سبحانه ليس محتاجاً أن يسأل
أحداً، فسؤاله هنا إنما هو على سبيل الإنكار. وصيغة السؤال على سبيل الإنكار تعطينا فائدة التنبيه. السؤال الإنكاري يتضمن في داخله التنبيه، كشخص يقول: "استيقظ! استيقظ!"، وهذه العبارة نقولها لمن؟ قال: للغافل، ولا نقولها للمتعمد، حسناً، المتعمد قاصد عالم مختار متعمد، إذاً
هؤلاء الناس عندهم غفلة، وهذا ستجدونه في المناقشات أن هؤلاء الناس ليسوا سيئين جداً بل غافلون عن معنى معين، يعني ليس عندهم سوء نية للإضرار بالناس، وإنما ليست لديهم الفكرة الصحيحة التي ينبهنا الله إليها، أهو كل هذا؟ يأتي من السؤال الاستنكاري، أي أن الله سبحانه وتعالى لو قال: "هم يريدون حكم الجاهلية"
كان ذلك يعني أنهم ضالون تماماً، وانتهى الأمر، وجعل العداء بيني وبينهم مستحكماً إلى يوم القيامة. هؤلاء أناس ضالون مغضوب عليهم، عقولهم مغلقة ويريدون الشرع. لكن عندما يقول: "أفحكم الجاهلية يبغون؟" فإنه ينبهني إلى أنه وبناءً عليه فهم من الغافلين، وبناءً عليه يستحقون الرأفة والراحة والهدوء، ولا يستحقون الصدام والمواجهة. أفحكم الجاهلية تبغون؟ توقف يا ولد واسحب كلامك،
فأنت لا تعرف ما هو مذهبك الذي ستصل به إلى تحكيم حكم الجاهلية، وهذا وبالٌ عليك وعلى الآخرين وعلى من تحب وعليك أنت نفسك وعلى من. أحكم الجاهلية يبغون؟ وهذا السؤال أيضاً لأنه في صيغة السؤال: "أفحكم الجاهلية يبغون"، نبّهه وقال لهم أصف، ونبّهني أنا أيضاً قائلاً: احذر، أليس هو قال: "واحذر أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك واحذرهم"؟ حسناً، أنا سأحذرهم، أنا سأحذرهم. فما معنى ذلك وربي؟
يحذرني أنني قد يميل قلبي إليهم ويقتنع ببعض مقولاتهم، فينبهني أيضاً ثالثاً أن أنتبه، فإنك إذا اتبعتهم ستصل إلى حكم الجاهلية. لقد نبههم ونبهني وعلمني منهجاً للتعامل معهم وهو الإقناع والهدوء والرحمة وطول البال، وعلمني تأجيل المسائل إلى الحكم يوم الدين، وعلمني أن أكون داعية.
ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟ لماذا يقول لي: تعال، احذر أن يضيق قلبك، فواحد في الألف. إن ربنا سبحانه وتعالى حكيم، وأحكامه حكيمة، وشريعته حكيمة، وطريقه حكيم ومستقيم ومنير، والباقي في اضطراب وغموض ومشقة. فتنبه، "أحسن" هي أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل يقتضي المشاركة،
أفعل التفضيل. يقتضي المشاركة بين أمرين وأن المعنى في أحدهما أكثر من الآخر، أن المعنى في أحدهما أكثر من الآخر. حسناً، الكلام الذي يقال له قد يكون فيه حسنة لكن شرع الله أحسن، وهذه نقطة تستفيد منها وأنت تجادل. ونحن كثيراً ما نجادل الناس، فتقوم وتقول له: لا، كل هذا باطل. كل هذا خطأ، لا يعني أن الله لم يعلمنا هكذا،
بل علمنا. نعم، ولكن أليس هناك خير في كذا وكذا وكذا؟ نعم صحيح، ولكن شره أكثر من خيره. عندما نسير وراء خطتنا هذه لن نحقق نتائجنا. طبعاً ستحقق نتائجها قطعاً، ولكن ليست هي النتائج المرجوة، ولسنا نحن من سنفيد الجماهير. هذه كلها نعم ولكن ستضر الجيل القادم وهكذا نعم، أما التي هي "أحسن أحسن"، فمعناها أن هذا الشيء حسن وذلك الشيء حسن أيضاً لكن حُسن هذا أكثر. فأفعل التفضيل يقتضي المشاركة بين أمرين، والمعنى الذي
تأتي به في أفعل التفضيل موجود في أحدهما أكثر من الآخر، فعندما نقول... هذا الولد أقوى من ذلك الولد، فيكون الاثنان قويين لكن هذا أقوى من ذاك. عندما نقول هذا أجمل من ذاك، فيكون الاثنان جميلين لكن هذا جماله أكثر من ذاك. عندما نقول "أحسن" و"أفعل" فالقاعدة الخاصة بها هكذا، ومن أحسن من الله حكمًا؟ أحسن من الله حكمًا، هو في الحُسن. في الحكم الذي لغير الله، من أين يأتي؟ يأتي بما وهبه الله له من عقل، ولذلك الشيخ الشعراني ينص على أنك إذا جئت إلى بلاد غير
المسلمين ووجدتهم قد نظموا للمعاش والارتزاق نظامًا لا يخالف الشريعة، فعليك أن تلتزم به، فإن ذلك مما ألهمه الله إليهم لتنظيم المعاش ولتحصيل الارتزاق ذهبت إلى بلد فوجدتهم واضعين شيئاً اسمه قواعد المرور يجب أن ألتزم بها. لماذا؟ قال: لأن هذا من إلهام الله له. لماذا وضعوها؟ حتى لا نتسبب في حوادث. شيء طيب وجيد، إذاً علينا اتباعها. لماذا قال لهم هذا من عند الله؟ هذا مما ألهمهم الله سبحانه وتعالى به،
ففي بعض في مقامٍ طيب، عندما يأتي العقل فإنه ينتج أشياء - ما لم تخالف الشريعة - جميلة وجيدة. وماذا عن الذي يخالف؟ هنا توجد مقارنة بين نتاج العقل البشري وأوامر الإله، وسنرى أن أوامر الإله أحسن. أما بالنسبة لنتاج العقل البشري، أليس فيه أي حُسن؟ لا، بل فيه حُسن. ولكن انتبه أفضل، يا سلام! ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟ رجعنا مرة أخرى للعلم وللرؤية وللعقيدة وللتصور الكلي للإنسان والحياة وما قبل ذلك وما بعد ذلك. وهكذا يسير قارئ القرآن معه
في نهوضه. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.