سورة المائدة | ح 991 | 51 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى وهو يقرر للمسلمين حالة ليعيشوا فيها في الاجتماع البشري وليكونوا أمة واحدة، وليكون ذلك أمراً من الأمور الإلهية التي لا يتشتت بموجبها المسلمون والتي بموجبها لم يحملوا السلاح على أحد من الناس إكراهاً، "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي". فكيف
يعيش المسلمون في العالم؟ ينبغي ويجب عليهم أن يعيشوا أمة واحدة، وإذا كان الأمر يتعلق بهذا فإنه ينبغي ألا يستمعوا إلى فتنة تأتيهم من هنا أو من هناك ابتغاء تفتيت الأمة يجب علينا أن نفهم هذه الآيات في نطاق الوحدة التي أمر الله بها المسلمين عبر التاريخ. أمرهم بالوحدة في القبلة، وأمرهم وجمعهم على نبي واحد، وأمرهم وجمعهم على إله واحد. والحمد لله رب العالمين، لم ينحرف المسلمون بكل مذاهبهم وجميع طوائفهم من
سلف ولا خلف ولا في الشرق ولا في الغرب عن هذا بل اجتمعوا على وحدة الأمة وعلى أن هذه الأمة قد اجتمعت على هذه الصفات ولذلك أراد أن يحذرهم من أي فتنة خارجية تأتيهم ولو باسم الدين فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، ولذلك فإن الأمة الإسلامية وبهذه الآية وعبر القرون عرفت كيف تتعامل مع الآخرين. وهناك فرق بين
التعايش مع أقوام لا يعتقدون في نبينا، بل إنهم في ورطة لأن كثيراً منهم يسبوننا ويصفونه بالكذب، وبالرغم من ذلك فإننا نتعايش معهم، وربنا سبحانه وتعالى في القرآن كما بيّنا. مراراً وتكراراً من أوله إلى آخره لا يحرم علينا أن نتعاون معهم ولا أن نودهم ولا أن نعيش معهم في مجتمع واحد بل ولا أن نتزوج منهم وتكون منهم أم لأبنائنا وحبيبة لبيوتنا، وبالرغم من ذلك فإنه ينهى عن أن نتولاهم التولية التي نفرق بها الأمة ونجعل أمة
الإسلام تتفرق. في قلوبها وفي حالها بحيث لا توجد عداوة مع الآخرين ولا تتقبل سعي العداوة من الآخرين، ولما كان من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قد خانوه الخيانة العظمى وقد اشتركوا مع المشركين في تقويض الدولة الإسلامية بعد صحيفة المدينة التي أقر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالمواطنة، ولما أراد كثيرٌ من النصارى من نجران أن يفتوا في عضد هذه الدولة، ولما رفض هرقلُ بعد أن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاون معه، نبَّهنا ربنا سبحانه وتعالى على أن نلتفت إلى أنفسنا، وأن نعيش أمةً
واحدةً متحدةً حتى لا يستطيع الآخرون. أن يُفْتُونا ولا يُفْتُوا مِن عَضُدِ مَن عَضُدَنا فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بل لا بُدَّ علينا أن نتخذ الأمة أولياء، والولي في لغة العرب هو هذا المطر الذي ينزل ثانياً بعد المطر الأول في موسم الأمطار والذي يُسمى بالوسمي، فالمطر الأول الوسمي والمطر الثاني. الولي وكان الولي قريبًا من الوسمي، فمن كان قريبًا من أخيه سمي وليًا له، ومن كان قريبًا من الله سمي
ولي الله، ومن كان قريبًا من أحدهم ومن طائفة من الطوائف سمي أنه منهم وولي لهم، فالولي هو ذلك القريب الذي ينزل بعد الوسمي والفترة الزمنية بين الوسمي والولي قليلة. لا تتعدى أيامًا ولذلك سُمي كل قريب بالولي، فإذا كان الإنسان يوالي الشياطين أي يتقرب إليهم بالمعصية وبمعصية الله تعالى فإنه ولي للشياطين، وإذا كان يتقرب لرب العالمين بطاعته فهو ولي لرب العالمين. ولذلك أولياء جمع ولي، والولي هو القريب، أتوا له
بذلك المجاز أن سموا هذا القريب باسم. المطر القريب من بدايته فالوسمي أول المطر والولي ثاني المطر وبينهما القليل من الزمن، ولذلك نهانا ربنا سبحانه وتعالى من أن نميل إلى غيرنا من اليهود أو من النصارى أو من الملاحدة أو من أهل أي كتاب كان فتنة بغية الفتنة وابتغاء التفريق للأمة المحمدية بهذه التعليمات وبهذه الأوان التي فهمها المسلمون وطبقوها عبر العصور، فخلصت لهم الدعوة ونشروا الإسلام من غير إكراه ومن غير صدام ومن غير حمل الناس
حملاً على أن يخرجوا من دينهم أو أن يتركوا عقائدهم وهم غير مقتنعين، بأن تركوهم لحالهم. ولكن أيضاً لم يجعلوهم قريبين من هذه الأمة داخلين فيها، فهناك مفاصلة وهناك معايشة. ولا بدّ علينا أن نفهم هذا لأن الذي أنكر التعايش متطرف، والذي أنكر المفاصلة كاذب، لأنه ليس هناك اتحاد، ولذلك فالوحدة الوطنية التي نتحدث عنها بين المسلمين والمسيحيين واليهود إنما هي في التعايش، ولا أُرغم اليهودي بأن يؤمن ولا بد بعيسى، ولا أن يؤمن ولا بد
بمحمد، فإن هذا نوع. من أنواع الإكرام، ولكن المعايشة هي أن نعيش في الجوار مع جاري، فإن مرض أسرعت به إلى المستشفى. حق الجوار كما قال النبي: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" يدخله في الميراث، من شدة حق الجار على الجار، ولو كان هذا الجار من غير دين، ولكنني لا أصف مَن أنكر نبوته بأنه ولي له، فهو ليس ولياً له بل هو جار له. "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم". لم
ينهنا الله عنهم أن نبرهم وأن نودهم وأن نقوم بشأن التعايش معهم، فلا بد علينا من أن نكون صادقين معهم. أنفسنا ومع قائدنا ومع وطننا ومع معيشتنا أن نفرق بين المفاصلة وبين المعايشة، فنحن نقر المعايشة ولكن نقر أيضاً المفاصلة. ولذلك مع هذه المفاصلة يأتي ويقول لي: "أنا الخنزير حلال عندي، تعال عندي اليوم حفلة شواء على خنزير جميل هكذا". قالوا: "لا، ديني يمنعني". اليهودي يشربون هم الخمر.
كثير ما يأتي ويقول له: "والله عندنا زجاجة نبيذ مع الناقة رقم واحد، مضى عليها ستمائة سنة، تعال نشرب معاً هكذا من أجل الود". ليس في ود، قلت له: "في ود". قال: "نشرب". قلت له: "لا، مفاصلة". لا أمنعه من أن يشرب، في ديننا هكذا، ولا أكسر له أيضاً. قارورته، ولو كسرتها له أدفع ثمنها كاملاً. لو كان مسلماً لكسرتها، ولكن عندما يكون غير مسلم لا أكسرها له ولا أشرب معه. ولا يأتيني بعد ذلك ليقول لي إن الوحدة الوطنية تقتضي ماذا؟ أن تأخذ ضربة هكذا، وأنت لماذا متعصب؟ لا يصح أن يكون هكذا. نحن نخلط بين المفاصلة والمعايشة. نُقِرُّ أيضاً بالمفاصلة، وهكذا علَّمنا ربنا سبحانه وتعالى، فَعِشنا
ونجحنا، وإلى لقاءٍ آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.