سورة المائدة | ح 994 | 53 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين". هذه مقولة أجراها الله سبحانه وتعالى على لسان المؤمنين. في مقابلة المنافقين، ولذلك فهو رسم لطريق التعامل مع طوائف تخالفك في الرأي، وبيّن ربنا سبحانه وتعالى أن الرأي في مقابلة
الرأي، وأن هذا الرأي وإن كان خطأً، وهذا الكلام الذي يصدر من المنافقين وإن كان منحرفاً، لا يواجه بالعقوبة ولا بالمصادرة ولا بالصدام ولا بالمنع، وإنما يقابل برد وافٍ. واضح شفاف عليه، المشكلة هي في التلبيس والتدليس لأن المنافق يصر على أنه مسلم وهو يعتقد في قلبه أنه ليس كذلك، فالمخادع والكاذب هو، والحجة التي معه أنه خائف، ولذلك
فإن الله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين ألا يصطدموا معه حتى لا يخاف، وبعد أن يمتثل المؤمنون لهذا فهو ما زال. خائفاً لأنه يريد لنفسه الشهرة ويريد لنفسه المجد ويريد لنفسه أن يكون محلاً للأضواء وما إلى ذلك، وهذا يضيع بالاعتراف لأن الناس لا تريده حين يذهب فلا يجد لنفسه مجداً ولا يجد لنفسه شهرة ولا يجد لنفسه شيئاً، فهو يريد أن يتاجر بعقول وقلوب الناس. يعلمنا ربنا كيف نتعامل معه. من غير صدام ولا تخويف ولا سلطان، ويقول
الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم، أقسموا بالله جهد أيمانهم. يبقى إذاً المؤمن عليه فضيحة هؤلاء. أنت يا بني ألم تقسم بالله وكررت القسم وأكدته واجتهدت فيه ثم تخالف كل هذا التأكيد؟ هو المؤمن ماذا يفعل هناك؟ يفضح حال المنافقين. إذا لم يذهب لضربه أو قتله أو إطلاق رصاصة في
قلبه لكي يصبح شهيداً وهو ليس كذلك، والله أعلم بما هنالك. والنبي صلى الله عليه وسلم يصف الخوارج بأنهم كلاب النار، وهؤلاء الخوارج كان عندهم تمتع وتشدد، فما بالك بالمنافقين، أفهم تعابين النار إذن؟ وما إلى ذلك، ولكنهم... على كل حال في حالة نقص وهوام على الله، فهذه الآية تعلم المؤمنين منهج التعامل مع المنافقين في مقابل ذلك النفاق. ويقول الذين آمنوا، يعني إذاً المؤمن وهو يواجه طغيان
النفاق سيواجهه بالقول، بالبيان، باللسان، بالحجة، بالبرهان، بالوضوح، بالشفافية، بالصدق والمصداقية. "ويقول الذين آمنوا أهؤلاء"، هنا نبدأ نسأل، أهو يكون سؤال، والسؤال هنا سؤال نسميه سؤال استنكاري، فسنستنكره ونظل في الاستنكار: لماذا لم تذهب وتضربه أو تقتله أو تقطع لسانه؟ أتعلمون لماذا؟ لأنه من الممكن أن يهديه
الله، وعندما تتحدث إليه قد يغير قلبه، وهذا الشخص حينئذٍ سيكون في ميزان حسناتك يوم القيامة. من إذاً الذي يقوم بهذه العملية أن في قلبه والله ما فيها إلا ربنا، فلو قتلته ضيعت عليه فرصة التوبة، ولو قتلته أكدت ما يقوله من أنه خائف وهو كاذب، ولو قتلته لصار شهيداً للباطل والباطل لا شهيد له. انظر، إلى الارتباك الذي
سيحدث لو أنك لم تطع أمر الله فقلت لا، الكلام لا يكفي. هذا لا بد أن أذبحه، نعم، يعني أنت أكثر من ربنا، لن ينفع، لن ينفع، سينقلب عليك، أنت لن تحقق إطلاقاً مراد الله في كونه، ولذلك "ويقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم"، فضيحة، بيان، برهان، كلام يكفي، نعم، لماذا يكفي؟ لأن الله هو الفاعل أراد أماته هذا على
كفره ونفاقه، وإذا أراد أماته على الإيمان وكمال الإسلام. ولذلك فنحن لا نتدخل في جريان مراد الله سبحانه وتعالى في كونه، بل نفعل ما أمرنا به ونبلغ رسالته. "بلغوا عني ولو آية". "ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا". خاسرين، ربما تكون هذه من تتمة كلام المؤمنين فيكونون يدعون عليهم، فتكون هناك أيضاً دعوة تقول: "يا رب أحبِط أعمالهم واجعلهم خاسرين".
ومن الممكن أن تكون هذه حكماً من عند الله وليست من كلام المؤمنين، فهنا الله تعالى يبين لنا أن هؤلاء الناس عندما فعلوا ما فعلوه والتزم المؤمنون بما أعمال هؤلاء الناس حبطت أعمالهم، وإحباط العمل من عند الله ولا يكون إلا من عند الله. ما هذه؟ لو كانت من كلام المؤمنين فتكون دعاءً لأن الإحباط من عند الله، ولو كانت من حكم الله فتكون من عند الله، لكن هذه لا تصلح أن تكون من عند المؤمنين أنهم يُحبطوا. أعمالهم ليست في أيديهم، حبطت أعمالهم. إما دعاء وإما حكم، والاثنان جيدان. ليس الحكم فقط، بل هو الأفضل. لماذا هو الأفضل؟ قال لك لأنك من الأفضل ألا تدعو عليهم، وعندما
تدعو لهم تقول ماذا؟ "يا رب اهدهم". انتبه أنني أرجو أن يخرج من ذرياتهم من يؤمن بالله. عندما أكون في موقف سيء، فمن الأفضل أن لا تدعُ عليّ، يعني لو دعوت علي حتى لا تحترق كبدك، فأنت بشر أيضاً. هل نواسيك ونقول لك: لا بأس، أنت لم تستطع أن تفعل الأفضل؟ "حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين". وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.