سورة المائدة | ح 998 | 54 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وعند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ وهذه واحدة، ﴿وَيُحِبُّونَهُ﴾ هذه الثانية، ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ست صفات: صفة الحب ويجب أن يكون من الطرفين، يحبهم ويحبونه. فإذا شعرت أنه يحبك وأنت لا تحبه لا
يتم كمال الاتصال والوصال، وإذا كنت تحبه وتشعر أنه لا يحبك لا يتم كمال الاتصال والوصال، فلا بد من الأمرين معاً حتى تتم. الدائرة دائرة الحب ثم هاتان الصفتان المتقابلتان أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين تجعل هذه الصفات لداخل الأمة. فليس من حق الكافر أن يتحدث معي: لِمَ لا تكون ذليلاً معي كما أنت ذليل مع أخيك المؤمن؟ لأنك لست معي في أمتي. ونحن هنا نبني أمة، هذه
الأمة تعرف تماماً كيف... توازن في التعامل ما بين المبادئ والمصالح، وتعرف تمامًا كيف توازن بين التعايش والمفاصلة، وتعرف تمامًا كيف توازن ما بين البقاء وما بين حسن الجوار. وأساس القضية هي أننا نحب الله ونشعر أن الله يحبنا، وأن عندنا حسن الجواب وتحته حسن الأدب. هذه الصفات الأربعة: أذلة على المؤمنين، أعزة على... المؤمنون يجاهدون في سبيل الله ولا
يخافون لومة لائم. والجهاد وسَّعه الإسلام فأصبح عندنا جهاد النفس، أصبح عندنا جهاد النفس وهو جهاد كبير مستمر مع الإنسان. قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة رجع منها فيما أخرجه البيهقي في كتاب الزهد مرفوعاً إلى سيدنا رسول الله: "رجعنا..." من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، وذلك أن الجهاد الأصغر يستمر شهرًا أو شهرين، معركة سنة أو سنتين، ولكن الجهاد الأكبر هو جهاد العمر كله. قيَّد
الله دائمًا الجهاد بقوله "في سبيل الله"، ولذلك المجاهد فارس نبيل، والمقاتل قد يكون فارسًا نبيلًا وقد يكون بلطجيًا. كلمة "تركي" مشتقة من "البلطة"، والبلطة هي أداة كالفأس تُستخدم لضرب الشجر وفيها عنف، وكانوا يذبحون بها شر ذبحة. فحين يقال لك إنه "بلطجي"، فهذا يعني أنه يقتل بغير حق. أما الجهاد فهو مقيد بأنه في سبيل الله، والمجاهد في سبيل
الله عندما يعود، فارساً نبيلاً، فيُحسن جوار الجار، يرد على الحي ويمسك الحي ويمارس عليهم قوته وفنون قتاله، لا، إنه يحمي الحي ويحمي أبناءه وبناته، فارس شهم علمته العسكرية الإسلامية أنه يفعل ذلك في سبيل الله. فالجهاد في سبيل الله معناه واسع، يشمل الحج، ويشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشمل القتال في سبيل الله، ويشمل مجاهدة النفس. ويشمل كل شيء كلمة
الحق عند السلطان الجائر، وهذا في حسن الجوار، لا يخاف لومة لائم، فدائماً يحكم بالعدل، يحكم بالقسط والقسطاس المستقيم، يحكم من غير تحيز، لا مع ولا ضد، "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"، ولو كان ذا قربى، "وبعهد الله أوفوا" يعني. كلام فيه نزاهة، فيه شفافية، فيه صدق،
وهذا هو أنه لا يخاف لومة لائم. لقد حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا وشدّد في التحريم شهادة الزور، وكان يعدد أشياء وكان متكئاً على أريكته فقام وقال: "ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور"، يكررها ثلاثاً. هذه الالتفاتة المتلقي يدرك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر وليس لها تأويل. يأتيني شخص يسألني قائلاً: "هذا حق ولكن ليس معه شاهد". لكنني لم أرَ النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن كل ذلك وقال: "أرأيت الشمس؟ فعلى مثلها فاشهد". أما هذا فربنا من خصصت له شاهداً.
فالله غالب على أمره، وإن كان صاحب حق ينصره الله ولكن من عنده، لا بشهادة الزور. ولو كان صاحب حق يأخذ الله حقه في الدنيا والآخرة. الأمر ليس لعبة، ولكن ليس من طريق شهادة الزور. أن تشهد زوراً أمام القاضي فهذه كبيرة من الكبائر، وستظل كبيرة ولا مبرر لها. مهما كانت الظروف ومهما كانت المقاصد الحسنة، فإنه ليس في دين الإسلام أن الغاية تبرر الوسيلة. ليس عندنا هكذا، الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فإذا كانت المقاصد حراماً حُرمت وسائلها، لكن الوسائل الحرام
لا يُتوصل بها إلى مقاصد شريفة. لا يصح إذا كونك لا تخاف في الله لومة لائم وكونك لا تخاف لومة لائم وفي فرق بينهما. لا تخاف في الله لومة لائم يعني أن الأمر متعلق بحكم شرعي، فلا تخاف في الله حينئذ لوم لائم، فلتأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر ولتبلّغ أحكام الله. لكن هنا أطلقها فقال: "ولا يخافون لومة لائم"، ليس فيها "في الله"، وهذا معناه أن الأمر يتعلق الدنيا ويتعلق بالنصيحة العامة ويتعلق بحسن
الجوار، وحسن الجوار ليس فقط جارك في السكن وهو أمر مهم أن تكرم جارك وأن تعطيه حقه في السكن، لكن أيضاً جارك في كل شيء في المسجد وفي العمل وفي المدرسة وفي كل شيء. فهنا قالوا كلما قلت القيود كثر الموجود، فعندما لم يذكر لفظ الجلالة هنا كانت هذه الكلمة "ولا يخافون لومة لائم" يعني في الدنيا والآخرة، يعني في الدين والدنيا، يعني في العام والخاص، في كل شيء، ليس في قضية تتعلق بالأحكام الشرعية الإلهية فقط، لا، وهو أمر مطلوب
لكنه فرد من أفراد هذه الآية "ولا يخافون لومة لائم" في كل شيء. فلا يخافوا لومة لائم في صناعة، في زراعة، في تجارة، في حياة، في أي شيء. عليه أن يؤدي، وهذا معنى "الدين النصيحة". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". فدخلنا حينئذ في نطاق واسع، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. وإلى لقاء آخر. نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته