سورة المائدة 28 سورة المائدة | حـ 871 | 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، وربنا سبحانه وتعالى يقول في أوائلها: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا". فإكمال الدين كان بختم النبوة، وختم النبوة اقتضى توحيد الأمة لكنه... استلزم نبياً مقيماً حتى يهدي الناس فكانت النبوة المقيمة هي القرآن الكريم. كل
نبي له معجزة، فهل كان القرآن معجزاً وهل لا يزال؟ فنقول نعم إنه كان معجزاً وإنه لا يزال، لأن كل نبي لا بد له من معجزة، ولأن القرآن إنما هو في مقام نبي مقيم فهو معجز كل. نبي جاء وجرت على يده المعجزات وعلى مثله آمن البشر، إنما لقوم رأوه بأعينهم أو بخبر متواتر لمن تلاهم. ولكن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت
للصحابة الكرام، رأوا الماء ينبع من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، رأوه وهو رحيم بأعدائه، بار بجيرانه، رأوه وعليه المهابة بالرغم. أنه شدّ من الجوع وسغب الأحشاء بالحجارة وشدّ من سغب أحشائه وقوّى تحت الحجارة كشحاً مترف الأدم. رأوه صلى الله عليه وسلم وكانوا يحتمون به إذا اشتد الوطيس في الحرب، فإذا سلّم أحدهم عليه وجد
يده كالحرير، وكان يعجل بيديه في الحصى وهو يقوم من السجود إلى القيام في الصلاة. ولا تتأثر يده الشريفة بمسِّها الحصى، رأوه وسمعوا الجذع بعد أن تركه، وكان يقف عليه يئن ويبكي لفراق الحبيب صلى الله عليه وسلم. ومن رقة قلبه ورحمته وعلو شأنه وكمال إنسانيته، ينزل من على المنبر وهو يخطب ويضمه إلى صدره الشريف فيسكت، وتنزل السكينة عليه، ويسرّ له بقول فيسكت. فيقولون: يا رسول الله، ماذا قلت له؟ قال: قلت:
"أفلا يرضيك أن تكون معي في الجنة؟" فسكت، فدفنه تحت المنبر صلى الله عليه وسلم. الصحابة رأت هذا، سمعت هذا، وهم جلوس رأوا رجلاً شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه أحد منا، وليست عليه علامات السفر ولا آثار السفر. رأوه من بعيد وكان أقرب ما يكون لصورة دحية الكلبي لكنه ليس دحية، هكذا من بعيد تظنونه دحية، وكان دحية أنيقاً جميلاً، فجلس فوضع ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه وجلس، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، أخبرني عن الإيمان، أخبرني عن الإحسان، أخبرني عن الساعة وعلاماتها،
وهكذا إلى... آخره، ثم عندما ولى قال: "أتعرفون من هذا؟" قالوا: "لا". كان العرب طوال النهار جالسين ويعرفون كل شيء، يرون شخصاً من مملكة يمشي بعيداً هكذا ويعرفونه. قالوا: "لا، لا نعرفه". قال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم". معجزات، ولذلك قال لهم صلى الله عليه وسلم: "إخواني، إخواني". قالوا: "نحن إخوانك قال الله: "لا، أنتم أصحابي، كيف تكفرون وأنا بينكم؟ أنتم ترون طوال النهار والليل، كيف ستكفرون؟" حتى إن الواحد لو أراد أن يكفر لا يعرف كيف يفعل ذلك. لقد كانت المعجزات تتوالى على يديه صلى الله عليه
وسلم، حتى قال العلماء: "بحثنا فما وجدنا نبياً له معجزة إلا أجراها الله عليه وسلم ثم أضاف معجزات متتالية ليست مرة ولا اثنتين ولا عشراً، حجة الله على العالمين. هذا الكتاب للشيخ يوسف النبهاني جمع فيه ألف معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال. ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، فجاء من بعد ذلك ورأوا أخلاقاً نبوية مصطفوية محمدية آمنوا بها ولكن. أين معجزة النبي المقيم؟ هذه معجزة الرسالة. يوجد لدينا معجزتان: معجزة رسول ومعجزة رسالة.
معجزة الرسول يراها جيله وأهل عصره، ومعجزة الرسالة باقية أبد الآبدين، ودائماً منها أن هذا القرآن محفوظ. فيخبر الله نبيه به: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". فيأتي أحدهم ويقول لك: لا، ليس محفوظاً. ولديّ ألف دليل، قل ألف دليل، واشترِ المصحف في جاكارتا، واشتره في موزمبيق، واشترِ واحداً آخر من ألمانيا، وقل لي كيف تحرّف. اجلس إذاً وهات، قل إذاً من هنا إلى هناك كما يقولون، ها هو القرآن. حسناً، سأقوم
لأصلي بكم الآن وسأقرأ القرآن. أنا مفتي الديار وأخطأت في القرآن، هل الذين ورائي كلهم يردون الله أين؟ أي تحريف هذا؟ هي كلمة واحدة فقط سقطت أو زادت أو تغيرت، ولا أحد يسكت. كان مرة أحد من مشايخنا الكبار القراء يقرأ، وكان هناك طفل صغير هكذا عمره حوالي سبع سنوات، فارتج على الشيخ وهو يقرأ في سورة الدخان، فالولد طرق بابه ولم يردوا عليه، فضرب الذي بجانبه هكذا، فقالوا: "الشيخ أخطأ، الشيخ أخطأ". فضحك الشيخ، وهو شيخ كبير، ضحك، لأنه محفوظ بالحرف، وهذا بطريقة
مطلقة. حتى إنه سيجلس ويعطينا درساً أن القرآن حرف. لن يفعل ذلك، فالأصل واقع في شيء يسمى واقعاً. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم. يقول: "ما هذه المرارة؟ لماذا هي هكذا؟ سأذهب لأعالج هذه المياه". أنت الذي تريده، هل توجد شمس؟ نعم، أنت لا تراها. أنت محروم لكن الشمس قد طلعت، وهكذا أبداً. ولذلك فالنبي المقيم، القرآن الكريم من معجزاته أنه الصدور تحفظ بكل ما فيها من كل شخصٍ كبيرٍ
أو صغيرٍ، وأنه حفظٌ من عند الله، والله يحفظنا من غير حولٍ منا ولا قوة. وإلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام