شرح الأربعين النووية | حلقة 26 | حديث 32 ، 33 ، 34 | أ.د علي جمعة | English Subtitle

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع الحديث الثاني والثلاثين من الأربعين النووية، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"، وهو
حديث حسن. رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما مسنداً وذكروا فيه أبا سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، فأسقط الصحابي أبا سعيد الخدري، وله طرق يقوي بعضها بعضاً ويجعله في مرتبة الحسن، وهذا حديث أُخِذَ الفقهاءُ وجدوا قاعدةً منبثَّةً في كلِّ الشريعةِ الإسلاميةِ وفِقهِها، وفي الكتابِ والسنةِ جميعِها، وهي عدمُ الإيذاء؛ فلا تضُرَّ نفسكَ ولا تضُرَّ غيركَ، حتى
صارت قاعدةً من القواعدِ الخمسِ الكبارِ: "الضررُ يُزال"، بل وتفرَّعَ عنها قواعدُ أخرى، منها: "الضروراتُ تبيحُ المحظورات"، ومنها: "ارتكابُ أخفِّ الضررين واجب"، ومنها: "الضررُ لا يُزالُ بالضرر". ومنها ما أُبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، وغير ذلك من القواعد التي نراها مبثوثة في أمثال كتب الأشباه والنظائر، كالأشباه والنظائر للإمام السيوطي ونحو ذلك. خمسٌ محررة قواعد مذهبي للشافعي بها تكون بصيرة: الضرر يُزال، والعادة قد حُكّمت، وكذا المشقة تجلب التيسير، والشك لا تُرفع به متيقناً، وخلوص النية إن أردت. سأهجره بخلوص النية، إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. لكن الضرر المُزال هو معنى الحديث "لا ضرر ولا ضرار"، إذ إن كلمة "لا ضرر" تنصرف إلى ضرر النفس، والضرار ينصرف إلى الإضرار بالآخرين. وبعضهم قال أن الضرر هو ما كان عن انثيال في الأعمال، يعني من غير تخطيط، كان بخطة وترتيب؛ يعني الضرر يتم من غير ترتيب، والأضرار تتم بترتيب ووضع خطة وقصد، وعلى كل حال فكل هذا حرام منهي عنه، ولا بد علينا
إذا ما حدث أن نزيله، وعندما نزيله لا نزيله بضرر أكبر منه ولا نزيله بضرر آخر، ومن هنا بنى الفقهاء كثيرًا جدًا من الفروع. الفقهية فعندما يغتصب أحدهم لوح خشب من أجل أن يبني سفينته ثم أصبحت هذه السفينة باللوح المغصوب فيها في وسط البحر ونحن نطالبه بالإسراع في رد هذا المغصوب إلى صاحبه، فهل يجوز لنا أن ننزع اللوح الخشبي من السفينة وهي في وسط البحر؟ فأجابوا: لا، حتى تصل إلى الشاطئ لأننا
لو نزعناها حينئذ لغرقت السفينة بما فيها من بضائع وبمن فيها من البشر، وهذا أمر لا يرضي الله سبحانه وتعالى. إذاً، فهذا حديث سنراه يدخل في كثير جداً من الفروع الفقهية. في الحديث الثالث والثلاثين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو..." لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعى رجالٌ أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر. حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين. إذاً البينة على المدعي
واليمين على من أنكر من أسس القضاء ومن أسس الشهادات، أمر منضبط. لو ادَّعى الناس دعاوى مرسلة لا دليل عليها برهان ولا شهادة ولا وثائق، لادعى أقوام أموال الناس ودماءهم بغير حق، ولذلك فلا بد من التوثق، ولابد من تدخل القضاء. ولذلك فحضارة الإسلام مبنية على عدل القاضي، حتى قالوا إن العدل أساس الملك. القاضي في الإسلام له مكانته، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحذر ويقول: القضاة ثلاثة، قاضيان... في النار وقاضٍ في الجنة،
أما الذي في الجنة فإنه عَلِمَ فعدل فهو في الجنة، وأما اللذان في النار فأحدهما حكم من غير علم فهو في النار، والآخر علم فحكم بغير عدل فهو في النار. النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمته أمة قضاء، ولذلك رأينا الخلفاء الأربعة في منصب. القضاء ورأينا من التابعين أمثال شريح القاضي كان ذكياً حاضر البديهة، كل صفات القاضي المحترم الجيد الذي هو مصدر لسلطة القضاء كانت في شريح. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر القضاة أن يستمعوا للطرفين وأن يحكموا
بالعدل، حتى حمل ابن عباس قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك الكافرون قال كفر دون كفر إذا حكم القاضي بغير العدل فَسمّى الحكم بغير العدل كفراً، ولذلك البينة وهي الشهادة على المدعي، أو أن يصل الأمر إلى الإقرار، واليمين على مَن أنكر. الحديث الرابع والثلاثون: فيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من أسس الإسلام، ولذلك فهذا حديث من أسس الإسلام. المنكر قد يكون في دائرة سلطاني، وحينئذ أغيره بيدي مباشرة، لا أتماهل ولا أتأخر، ولكن إذا كان في... خارج سلطاني فقد أستطيع أن أغيّره وقد لا أستطيع أن أغيّره، فإن لم أستطع فعليّ بالنصيحة والدين النصيحة، وعليّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعليّ باستعمال اللسان في الموعظة أو بالتوجيه أو بالأمر والحث، فإن لم أستطع حتى هذه وكانت
هناك من العوائق والعلائق والموائمات ما لا أستطيع أن أذكر. ذلك بلساني فعليّ أن أذكر ذلك بقلبي، وهذا أضعف الإيمان، يعني أقله ثمرة، ولذلك فهو في المرتبة الدنيا. فالإنسان يغيّر منكر المنكر في بيته، ويغيّر بلسانه في محل عمله مثلاً وفي مسجده، ولكنه إذا لم يستطع ذلك لأمر عارض، ورأى أن الأمر بالمعروف فيه سيسبب ضرراً أبلغ، فإنه لا بد... عليه أن ينكر بقلبه، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،