صفات العبد الرباني | أ.د علي جمعة

ما صفات العبد الرباني وكيف نحاول أن نتحلى دائما بالبعد عن حب الدنيا ومتاعها ونحن دائما نسعى للنجاح فيها بما يرضي الله ورسوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حل هذا الإشكال الفرق بين الدنيا والحياة فنحن قد أمرنا بحب الحياة فهذه الدنيا حياة لكنها جزء صغير من الحياة ثلاث دقائق كما حسبناها مراراً،
لو عشت مائة سنة يبقى جلست ثلاث دقائق، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون. الحقيقة والحياة الأبدية المستمرة التي هذه الدنيا جزء بسيط منها هي الحياة الآخرة، فنريد في هذا الامتحان والاختبار الدنيوي أن ننجح حتى ننال رضا الله وثواب الله وجنة الله. في هذه الحياة الممتدة خالدين فيها أبداً، ويذبح الموت بين الجنة والنار، ويقول: "يا أهل الجنة خلود لا موت بعده، ويا أهل النار خلود لا موت بعده". ولكن معبر الدنيا هو الذي فيه الثواب،
هو الذي فيه الاختبار، هو الذي فيه الامتحان، هو الذي فيه التكليف، فنحن نحب من الدنيا. الحياة ونكره من الدنيا دناءتها وقذرها ونكدها وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنها لو ساوت جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شربة ماء. إذاً فهي - أي الدنيا - شيء ليس مرغوباً فيه، وسميت الدنيا لأنها قريبة منا ومن شهواتنا ورغباتنا ولأنها دنيئة. أما الحياة، فأبداً! الحياة افتخر الله. علينا بها فقال:
"وجعلنا من الماء كل شيء حي"، فالله هو الحي القيوم الذي ظهر وتجلى باسمه الحي على هذه الكائنات، فأصبحت الحياة لها احترام. وفي الفقه يقول: "يجوز لك التيمم إذا كان معك ماءٌ يحتاجه ولو حيوان محترم"، يعني بقرة أو شاة، فما دامت فيها حياة تكون محترمة. ويجب أن نحافظ عليها ونتفاءل بها، والمياه أمامي لأن هذه المياه يحتاجها خروف أو تحتاجها معزة. فالحياة ممدوحة ولكن الدنيا مذمومة، ولأن الدنيا تطلق على
هذه الفترة ما بين الميلاد إلى الوفاة، فلها وجهان: وجه يمثل الحياة، ووجه يمثل الكدر والنكد والرغبات والشهوات والدناءة، والذي أمرنا الله به أن نتمسك بالحياة فحرم علينا الانتحار، ولو كانت الدنيا بمعنى الحياة فقط وأن الدنيا ذميمة فالحياة ذميمة، لأمرنا بأن يقتل أحدنا نفسه وأمرنا بالانتحار، لكنه لم يفعل بل رغب فينا الحياة لأنها من عنده جليلة، فالنبي حل هذه المشكلة. أنا أريد أن أكون ناجحاً
في الدنيا، فما هي الأعمال التي أفعلها؟ هكذا فقال فيما فهموه عنه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والمتحدثين والمحدثين المتصدرين: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". يقول ابن الحاج في المدخل: "فالفرق الذي بيننا وبين الجيل الأول من الصحابة أنهم كانوا يحولون كل شيء من أفعالهم بالنية لله، فإذا لبس ثوباً جميلاً..." غالبا ما ينوي إظهار نعمة الله عليه "وأما بنعمة ربك فحدث"، فيشعر أنه وهو يلبس الجميل
الجليل الغالي أنه يطيع الله، وأنه يفعل هذا من أجل إظهار نعمة الله عليه. ثم يضيف إليه نية أخرى وهي أن يراه الفقير ويرى سمته، فيذهب إليه ويطلب منه حلاً لمشكلته، محتاج علاج، محتاج مال. محتاج معونة محتاج شفاعة فيتحاب بالناس ويرضى الله يرضى الله وأنت تلبس هذا الثوب أما لو لبسته كبراً وبطراً وفخراً وتعاجباً فإنك
قد ارتكبت إثماً لأنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر والملبس واحد إلا أنه توجه بالنية ما بين أن يكون ثواباً وما بين أن يكون عقاباً هو هو لبسه واحد إنما الأعمال بالنيات، ينبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يمكن أن نحول كل حركاتنا وسكناتنا في هذا الكون بالنية لله، فإذا أكل نوى التقوي على العبادة والتقوي على عمارة الأرض والتقوي على تزكية النفس وامتثال أمر الله فيه
أنه أحوجنا إلى الأكل والشرب يعني أمرنا بالأكل والشرب، قال تعالى: "وكلوا" أمرٌ "واشربوا" أمرٌ "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين". إذاً الأفعال كلها التي تتعلق بالدنيا ستصبح للآخرة من حركات وسكنات، وليس الذي هو للآخرة محض العبادة، بل إنها هي الإناء الذي تضع فيه مكارم الأخلاق، "وإنما بُعثت لأتمم مكارم" الأخلاق فلا بد من الصلاة ولا بد من الصيام لرمضان ولا بد من الحج لبيت الله الحرام ولو مرة في العمر ولا بد من إخراج الزكاة ولا بد من إعلان الشهادتين
وكل هذا يعد إناءً لا بد منه وبدونه تذهب الأعمال وقدمنا إلى ما عملوا من عمل إذا هم عملوا أهو وقد يكون عملاً لوجه الله أو الخير فجعلناه هباءً منثوراً مثل الماء بدون إناء هدر، خلاص لن تستطيع الاستفادة منه. أما الذي في الإناء تشرب فيحدث الري ويذهب العطش وتستفيد منه هكذا. والذي ليس في إناء ابحث عنه، اذهب وانظر أين هو موجود، لقد انتهى، لا وجود له. إنما الأعمال بالنيات، لما عرف العلماء المتصدرون أهميته وأنه
مفتاح يكاد يكون لكل الدين، جعلوه أول حديث في كتبهم. فصدر الإمام البخاري صحيحه بحديث عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله". ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، والفعل واحد "هاجر" وهذا "هاجر"، ولكن هذا جعل الهجرة لله وهذا جعل الهجرة لمصلحة يتغياها، فأُثيب هذا وأُعطي هذا على قدر ما نوى، فادَّخر هذا ثوابه في الآخرة
بقية الحياة الحقيقية، وضيَّع هذا ما له في الدنيا نعمة البصر ونعمة الصحة ونعمة الغنى ونعمة تلو نعمة، أي نعمة من النعم. هذا هو الحال، فصفات العبد كيف نجمع بين مفهوم الدنيا ومفهوم الحياة؟ الحياة هي الأساس المستمر المطرد المُعرض عنه، الذي أمرنا الله بالحفاظ عليها حتى في صورة البهيمة، ولكن الدنيا هي شهوات ورغبات منظمة. الله لنا وحد لنا حدودًا ورسم لنا خطوطًا لا نتعداها ومن يتعدى حدود الله إذًا
فقد ظلم نفسه تلك حدود الله فلا تعتدوها