طريقنا إلى الله | حـ 11 | التخلي والتحلي والتجلي | أ.د. علي جمعة

طريقنا إلى الله | حـ 11 | التخلي والتحلي والتجلي | أ.د. علي جمعة - تصوف, طريقنا إلى الله
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى، رأينا كيف أنه بُنِيَ على الكتاب والسنة، وأن من أركانه الذكر والفكر. في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى نرى ركناً من أركان هذا الطريق وأساساً من أسسه يتمثل. فيما يسمى بالتخلي والتحلي، والتخلي والتحلي ينتج منه التجلي، وهذه الألفاظ الثلاثة نعيش معها سوياً حتى نعلم معناها. التخلي مما أسماه أهل الله
بالمهلكات، التخلي عن القبيح وعن كل ما يُعد خلقاً سلبياً. التخلي يعني تخلية القلب من كل قبيح، والتحلي تحلية القلب بكل صحيح، وهو ما يسمى بالمنجيات. أما التجلي ففيه إشراقات أنوار وكشف أسرار ورؤى وإلهامات وواردات وخواطر، وهكذا فيه كرامات وفيه إشارات. إذا فعندي التخلي ثم
التحلي فالتجلي. ما هذه المهلكات وما ذلك القبيح من المهلكات؟ الكبر يحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". من خردل مثقال حبة الخردل، هذا الخردل ستة آلاف حبة منه تساوي جراماً واحداً، إذاً فوزن حبة الخردل واحد على ستة آلاف من الجرام. ما هذا؟ هذا مثل الذر الذي في شعاع الشمس، هذا شيء يعني كأنه لا قيمة له. إذاً هذا تحذير
شديد من رسول الله من الكبر وفي... الحديث القدسي: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أخذته ولا أبالي". إذاً فالكبرياء لله وحده، من تواضع لله رفعه. هذه التحلية عندما أنزع الكبر من قلبي فإن التواضع يسكن فيه. أتعرف أنك مخلوق؟ إذاً فتواضع. أتعرف أنك فانٍ؟ إذاً فتواضع. أتعرف أنك ضعيف "وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفاً"؟ إذاً فتواضع. أتَعرَف أنَّك محتاجٌ إلى غيرِك، فتَواضَع! أم تُعَلِّمُ نفسَك أنَّك قادرٌ ولديك حولٌ
وقوةٌ وكذا إلى آخره؟ هل هذا التواضعُ ذلٌّ للنفس؟ أبداً! هذا التواضعُ هو وضعُ الشيءِ في محلِّه. ومن أجلِ هذا ستتحسَّنُ أخلاقُنا. الكِبْرُ هو أن تتعالى على الناسِ، أن ترى لنفسِك قيمةً مُضافةً ليستْ لخلقِ الله. هو الذي يقدح في المساواة بين الخلق وقد خلقنا الله أحراراً وخلقنا متساوين في الحقوق والواجبات، وهناك فرق بين المساواة وبين التساوي، ولكن الكِبْر يُخِلُّ بمبدأ المساواة. الكِبْر يُخِلُّ
بمبدأ الإخاء الذي شعر به الغرب بعد تجربة مريرة مع الإقطاع الذي كان يملك الأرض ومن عليها ويسمي الفلاح قِنَّ الأرض. يعني عبد الأرض فيمتلكه ويمتلك الأرض معه، والإنسان الحر لا يدخل تحت اليد ولا يتصرف فيه أحد. التواضع إذاً ليس إذلالاً للنفس كما يصوره بعض من أراد أن تكون الدنيا في قلبه. ومن دعاء الصالحين: "اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا". الكبر ليس هو الغنى، والكبر ليس هو الصحة والقوة
والسلطان. الكِبْر هو بَطَر الحق، هو إنكار الحق، هو التعالي بدون حق على الناس، هو التفاخر وطلب المجد لغير وجه الله سبحانه وتعالى. فالكِبْر من المهلكات، الحقد والحسد والغل والكراهية من المهلكات، وفي مقابلها، وعندما أتخلص من الكراهية تراني أحب الأكوان وأحب الإنسان، فأحب الرحمن، ولذلك علمنا. الله سبحانه وتعالى، حتى نصل إلى هذا الحب، أن الكون من حولنا
يسبح. تخيل أن الحجر والمدر وأن الشجرة والنهر كلها تسبح، "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم". تخيل أنك تسير في وسط كون يسبح، بل ويسجد، بل وينشئ علاقة العبد لربه مع ربه. طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين، فما بكت عليهم السماء والأرض. السماء تبكي والأرض تبكي. عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا. الجبال أشفقت. إذًا أنا في وسط كون متفاعل
وليس في وسط كون أصم، في وسط كون أعبد فيه. الله سبحانه وتعالى وأسير في هذا التسبيح والسجود والتلبية. الرحمن على العرش استوى أي استولى وقهر. عُرض عليه الأمر: "ائتِ طوعاً أو كرهاً"، فقال له: "هل ستأتي طوعاً أو كرهاً وأنت أعظم مخلوق وأكبر حجماً من السماوات ومن الأرض ومن الجنة ومن النار؟" فاستوى عليه أي استولى عليه قهراً لأنه... وهو القاهر فوق عباده سبحانه وتعالى فتفرد بالجلال وحده. إذاً فهذا طريقنا إلى
الله سبحانه وتعالى يتم بالتخلية عن كل قبيح، واحد وعشرين صفة قبيحة، منها الكبر، ومنها الكراهية، ومنها الحقد، ومنها الحسد، ومنها الظلم، ومنها القسوة، ومنها العنف إلى آخره، والتحلي بكل صحيح. هذا من الحب، من الرحمة. من الرفق، من المسامحة، من العدل، من الإخاء، من المساواة، فالتجلي بعد ما نتخلى ونتحلى يحدث ما يسمى بالتجلي. التجلي هذا هو تجلي الإشراقات، تجلي
الإشراقات بأنواعها المختلفة على القلب، نعمة من نعم الله علينا، كنعمة المال، كنعمة الصحة، كنعمة العلم، كنعمة الحياة، كنعمة السلطة، كنعمة الجاه، كنعمة السلطان. نعم. نِعَمٌ كنعمة البصر، كنعمة السماء، نِعَمٌ، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. هذه النعم، ما موقفنا منها؟ في حلقة قادمة إن شاء الله نذكر ذلك معاً. نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.