طريقنا إلى الله | حـ 13 | الإشراقات جـ2 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى رأينا كيف أنه مقيد بالكتاب والسنة، وأن أساسه الذكر والفكر، وأن من أساسياته التخلية والتحلية، فالتخلي والتحلي من كل قبيح لكل صحيح يؤدي بنا إلى التجلي من الإشراقات. والإشراقات لا نقف عندها ولا نلتفت إليها وإن كانت نعمة من نعم الله علينا تستوجب الشكر الجزيل لرب العالمين. والإشراقات كثير من الناس يضل بها، فالإشراقات
منها ما هو كرامات، ومنها ما هو رؤى ومنامات، ومنها ما هو إشارات، ومنها ما هو أنوار تتلألأ في القلب، وهذه الأنوار التي تتلألأ. في القلب في بعض الأحيان تفتن صاحبها ونحن نريد أن نعبد الله مخلصين له الدين لا نستلذ بهذه المعاني ولا نفتن بها. هذه الأنوار جعلت أهل الله يتأملون في الأكوان. هذه الأنوار وجدوا فيها أموراً عدة، وجدوا أن هناك حياة نحياها، هذه
الحياة التي نحياها تسمى بالملك، والملك معناه كل أدركه حس الإنسان المعتاد. الإنسان المعتاد يرى أن هناك كفيفاً فقد حبيبتيه وله الجنة، ولكن ليس هذا هو المعتاد في بني البشر أن يُخلق من غير بصر. حس الإنسان المعتاد اللمس، حس الإنسان المعتاد الشم، حس الإنسان المعتاد الذوق، حس الإنسان المعتاد، وهكذا. فإذا كان الإنسان له حس معتاد، فإنه به وتوصل إليه فهو من عالم الملك، ولذلك فالكهرباء من عالم
الملك وإن لم نرها، لكننا نشعر بها ونرى آثارها. فنراها وهي تضيء المصباح، ونراها وهي تحرك المولد أو المطور، ونراها وهي تُستعمل في الاستعمالات المختلفة. وإذا أصاب أحدنا شيء منها فإنه يُصعق. نشعر بها ونعرف وجودها ونعيش أيضاً بها. فهي من عالم الملك ضوء الشمس والقمر، من عالم الملك ضوء الكهرباء، من عالم الملك النور الذي نراه في وجوه أولياء الله الصالحين، من عالم الملك. وهي أنوار كما نرى مختلفة لكنها من عالم الملك. وهناك ما أخبرنا الله عنه من عالم
الجن والملائكة والروح، وعوالم كثيرة كالجنة والنار والعرش. كل ذلك ليس في حس الإنسان المعتاد فيسمى بعالم الملكوت، وأخبرنا الله سبحانه وتعالى عن نفسه وأنه موجود بوجود الحق والوجود الدائم، وكل شيء فانٍ في هذه الحياة الدنيا إلا وجه الله، "كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، فإذاً هذا الملك والملكوت في حالة الاحتياج لإمداد. الله سبحانه وتعالى، فهذا الملك والملكوت شيء، ووجود الله سبحانه وتعالى في جلاله وجماله
وكماله في عظمته ورهبته ولاهوته شيء آخر. وكما قلنا: الرب رب والعبد عبد، وهناك فارق بين المخلوق والخالق. قسّم أهل الله الموجود إلى الله وإلى الكون العالم، وهذا العالم على قسمين: ملك يدركه الإنسان بحسه. المعتاد وملكوت يؤمن به الإنسان وإن لم يره، وهناك أنوار في عالم الملكوت كما أن هناك أنوار في عالم الملك، فالأنوار تتعدد. هذا أيضاً حتى وإن
قاله أهل الله، إلا أن الفيزياء الحديثة تدور حول هذا أن الضوء ينكسر عند الثقوب السوداء، واختلفوا هل هذه الثقوب السوداء منتهى أم مبتدأ. هل هي تنقل الإنسان من قوانين عالم إلى قوانين عالم آخر لم نره، وعندنا في القرآن كلام عن سدرة المنتهى، فسماها الله المنتهى، منتهى عالم هذه القوانين التي يسعى فيها الضوء كأسرع ما يسعى موجود فيها، إنما ما وراء المنتهى هناك عالم آخر، هذا العالم الآخر لا نعرف قوانينه. السقوب السوداء أدركناها
فهي من المُلك، وما وراءها قد يكون من الملكوت، وكل ذلك في خلق الله سبحانه وتعالى؛ لأننا نتكلم عن كتاب الله المسطور وكتاب الله المنظور وكتاب الله المقدور. فقد تكلم أهل الله في هذا المجال في الإشراقات التي منها الأنوار التي ينبغي أن نتمتع بها ولا نقف. عندها نعدها نعمة ولكن في نفس الوقت لا نعدها معياراً وتفاخراً لنا على الآخرين وإلا وقعنا في الكبر والعياذ بالله تعالى. هذه الأنوار جعلتنا ندرك الملكة والملكوت، لكن هذا
القلب في الإنسان الذي هو كتاب الله المقدور له لطائف سميت باللطائف الخمسة وجدوها وأدركوها من قبل الوجود لا من قبل. الوحي لأنه مصدر للمعرفة: كتاب الله المنظور، وكتاب الله المسطور، وكتاب الله المقدور. جرِّبوا، لاحظوا، ارصدوا، سجِّلوا، فكِّروا، استنبطوا، فوصل بنا الحال إلى اللطائف الخمس التي تكون في الإنسان وهي القلب. والقلب مسكن الرب سبحانه وتعالى، ليس بالحلول والاتحاد - والعياذ بالله تعالى - فهذا من الأشياء المنهي عنها في
الصورة والحلول والاتحاد التي عبر عنها سيدي ابن بشيش وأنقذني من أوحال التوحيد لأنني أريد توحيداً خالصاً خالياً من الاتحاد، خالياً من الوحدة، خالياً من التصور والصورة، خالياً من الأشكال. وهكذا قلب القلب هذا الذي اشتغلنا عليه في التخلية وفي التحلية، القلب هذا الذي كان سبباً من أسباب التجلي. القلب هذا يجب أن يعلو العقل، والعقل يعلو السلوك. سلوكي يجب أن يتحكم فيه العقل، وعقلي يجب أن يوجهه قلبي الذي هو ضارع لربي. انعكس الحال في العصر الحاضر، فالسلوك تحكم في العقل
وأسكته، فغلبت على الناس الشهوات والرغبات، وأيضاً العقل تحكم في القلب فأسكته وأراد أن يفصله عن ربه. إذا اللطائف الخمس القلب والروح والخفي والسر والأخفى هذه الخمسة سنعالجها بالتفصيل حتى نرى أنوارها في عالم المُلك وأنوارها في عالم الملكوت وما بعد ذلك من فوق العرش وخارج العالم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.