طريقنا إلى الله | حـ 20 | قلة الأنام | أ.د علي جمعة

طريقنا إلى الله | حـ 20 | قلة الأنام | أ.د علي جمعة - تصوف, طريقنا إلى الله
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى، وقفنا عند التربية بقلة الكلام وقلة المنام وقلة الطعام ثم قلة الأنام. وقلة الأنام يشير إليها ما سنه الله لنا من قضية الاعتكاف، يشير إليها هذا الإرهاص بالنبوة. لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "حُبِّبَ إليَّ الخلاء"، فكان يتزود لليالي
ذوات العدد في غار حراء، حتى إذا نفد الزاد من طعام ومن شراب نزل إلى مكة ليتزود لمثلها، وهذا هو الميقات الذي جعله الله سبحانه وتعالى لموسى ثلاثين ليلة ثم زاده عشراً، فأصبح عندنا أيضاً. اعتكاف عن الخلق وبعد عن الخلق في تجربة النبي صلى الله عليه وسلم وفي تهيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأولى وكذلك عند سيدنا موسى، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِ، وكذلك في سنة الاعتكاف سواء في البيت الحرام أو كان
في مساجد الله كما يرى الشافعي أننا إذا ما دخلنا المسجد ننوي سنة الاعتكاف لدقائق أو لساعات ما بين الصلاتين فليكن ذلك، وإن كان الإمام أبو حنيفة قد اشترط في الاعتكاف الصيام، ولذلك لا يجوز عنده إلا أن نعتكف يوماً بليلة حتى نؤدي فيه الصيام، لأن الصوم شرط عنده لصحة الاعتكاف. على كل حال، الفكرة التي نريد هي قضية قلة النوم، وقلة النوم معناها إتاحة فرصة لعقل الإنسان أن يتأمل،
أن يتدبر، أن يتفكر، أن يعيش مع نفسه، أن يراجع أخطاءه، أن يراجع أفعاله، أن يُقوِّم تصرفاته حتى يتقدم إلى الأمام. إذاً فهي تربية تهيئ الإنسان في نهاية المطاف للذكر وللفكر، للتخلية وللتحلية، للتعامل مع التجلي. من أجل أن يصل الإنسان في طريقه بهذا السلوك إلى العبادة الحقة وإلى إخلاص الدين وإلى إنشاء الهمة قلة المنام، بعض أهل الله يتحدثون أن قلة المنام لا
بد أن يتصل بها خدمة الأنام، ومن هنا كانت في طريق الله قضية الخدمة، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، خدمة الناس بكل أشكالها. بأشكالها البسيطة والمركبة، بأشكالها الآنية والمستقبلية، بأشكالها الخاصة والعامة، بأشكالها الجزئية والكلية، بأشكالها المطلقة والمقيدة، بأشكالها خدمة الناس. قلة النوم مرتبطة بخدمة الناس، إذاً فقلة النوم ليس معناها الهروب من
الناس ابتغاء كراهية هؤلاء الناس، بل قلة النوم معناها التركيز من أجل خدمة الناس بكل الوسائل، ومن هنا من قلة. الأنام وخدمة الأنام، حملوا حديث ابن عباس حيث كان معتكفاً فجاءه رجل يدعوه إلى خدمة معينة وهو يعرف أن ابن عباس معتكف هناك، بقي يوم أو يومين، فخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من المسجد، أي أنه كسر الاعتكاف، أي ترك الاعتكاف ليذهب لخدمة ذلك الرجل
مع الخدمة التي أو شفاعته التي أرادها منه، فقال له الرجل: "لستُ في عجلة، أتمم اعتكافك". فقال له ابن عباس: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كان في حاجة أخيه فله اعتكاف أربعين، ولا أدري أربعين شهراً أو أربعين سنة". يعني أتريدني أن أكمل اعتكاف يومين وأضيّع على نفسي؟ اعتكاف أربعين سنة؟ إنها فرصة! أنت تعتكف أربعين سنة على الأقل، أو أربعين شهراً كحد أدنى، أو على الأقل سيكون أربعين يوماً وأنا معتكف يومين أو ثلاثة.
فكما أن في الاعتزال قيمة من أجل ملء القلب بكثير من الهمة، إلا أن وجهها الآخر هو الخدمة، ومن هنا يتحدث أهل الله. عن قضية الخدمة، والخدمة هي أن تكون في خدمة الناس، تكون في حاجة الناس، يجب عليك أن تقضي حوائجهم. وورد في أحاديث كثيرة كيف أن هذا له الأجر الجليل والتام عند الله سبحانه وتعالى. بقلة الكلام وقلة المنام وقلة الطعام وقلة
الأنام مع خدمتهم يتم السلوك، حتى قال رسول الله. صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل قد أُوتي صمتاً وحكمة فإنه يُلقى الحكمة"، يعني يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً. فإذا رأينا الرجل قد صمت فإنه يُلقى الحكمة، تتنزل على قلبه من عند الله سبحانه وتعالى جزاءً لقلة الكلام. بقلة المنام قُم الليل. إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى
أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ينزل ربنا إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر طريق مقيد بالكتاب والسنة قلة الطعام التي فيها كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ومن هنا مع قلة الناس نشأت عند أهل الله قضية هي قضية الخلوة والجلوة. الخلوة والجلوة نشأت من قلة الناس. الخلوة لها معانٍ فقد تكون الخلوة عن الناس، لكن قد تكون الخلوة أيضاً عن
المعاصي. والجلوة مع الناس، لكن أيضاً قد يكون ثواب الخلوة القلبية مع تلك الجلوة حتى. قالوا إن خلوتهم في جلوتهم مع تفصيل ذلك الخلوة والجلوة. سنعيش مرة أخرى في حلقة أخرى، فإلى لقاء قريب. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله