طريقنا إلى الله | حـ 24 | مراحل الطريق ودرجات السالكين | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في طريقنا إلى الله رأيناه مراحل سلك فيها السالكون وخبرها الأتقياء والأنقياء، وسجلوا ذلك، ورأوا أن المرحلة الأولى هي أن يتنبه الإنسان من نومه، من غفلته، من انغماسه في الدنيا، وسمَّوا هذه المرحلة باليقظة. المرحلة التالية هي مرحلة التوبة، وكما قلنا أنهم قسموا الناس إلى ثلاثة أقسام طبقاً لعلاقتهم مع الله سبحانه وتعالى، فمنهم العوام، ومنهم
الخواص، ومنهم خواص الخواص. شبهوا هذه الأنواع الثلاثة برجل وقف أمام البحر، شاهد البحر، رآه، عاينه بعينه، سمع هدير الأمواج، وقد يكون حاول أن يتذوق ماءه فوجده مالحاً. له معرفة بهذا البحر وباتساعه وبمعناه، لكن هناك شخصاً آخر ركب هذا البحر إلى البر الآخر منه. هذا بلا شك يعلم البحر في شاطئه، والبحر
في لجته ووسطه، والبحر في منتهاه في الشاطئ الآخر. فهذا الذي وقف عند البحر من العوام، والذي ركب البحر وذهب إلى الطرف الآخر من الخواص. ثم إنه بعد ذلك عاد مرة أخرى، وأثناء ذلك حاول العبد أن يصطاد الأسماك، وحاول أن يستخرج لؤلؤ هذا البحر ومرجانه، فقد وصل مرة أخرى إلى شاطئ الأمان عائداً بسلامة الله، وأصبح أمامنا اثنان على الشاطئ: واحد لم يركب البحر، وواحد
ذهب وأتى فكان من خواص الخواص، وهناك ثالث لم... نراه أو هو غائب عنا وهو الذي في الطرف الآخر، وهذا هو الخواص درجاته ثلاثة: عامة وخاصة الخاصة. وهنا نلحظ ملاحظة دقيقة أن خاصة الخاصة وهو حال الصديقين والمقربين وهو الوراثة النبوية الشريفة، يرثون الأنبياء، فهو تشبُّه بحال الأنبياء. خواص الخواص يشبه في تصرفاته العامة العوام، الذي يفرق بينهما. هي درجة اليقين،
هذا رأى الحق بعين اليقين وهذا بحق اليقين، وقد يكون هناك شخص آخر سمع عن البحر وعرف البحر وشاهد صوره فهذا قد عرفه بعلم اليقين. فهناك علم اليقين وهناك عين اليقين وهناك حق اليقين، وكلها ألفاظ قرآنية. هذا العام له طاقة وله طريقه في التوبة وهي المرحلة. الثانية بعد اليقظة لا بد عليه أن يتوب من المعاصي فهناك شهوات وهناك رغبات وهناك مرادات للإنسان واحتياجات، يريد أن يفطم الجوارح
عن المعاصي. هذا الفطام وهذه التوبة هي توبة العوام، عموم الناس. يجب عليك إذا ما أردت التوبة أن تقلع عن الذنب وأن تنوي ألا تعود إليه أبداً وأن. تندم على أنك قد وقعت فيه، وإذا كان الذنب متعلقاً بحقوق العباد رددتها إليهم. فالتوبة شروط قبولها ثلاثة، وإذا تعلقت بحق العباد فأربعة. هذه توبة العوام، لكنه لما يكون من الخواص، والخواص تراه أنه قد تنزه عن الوقوع
في المعاصي. والمعاصي منها ما هو من الكبائر ومنها ما هو من الصغائر وهو نزّه نفسه عن الكبائر وعن الصغائر، لكن توبته تتأتى في أنه يزهد ولا يريد المباحات التي تمثل كدراً في علاقته مع الله، كثرة الأكل وكثرة الشرب وكثرة التصدر، وهكذا أمور مباحة في أصلها وهو لم يرتكب بها إثماً، ولكنه يتنزه عنها، "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى" أحبه فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها. فالعامي يتوب من الذنوب من المعاصي، ولكن الخاص يتوب من المباحات والمتاحات حتى يتقرب مكانها بالله ويستبدل بالمباح المندوب، يستبدل بالمباح الطاعة.
ليس من التقوى ولا من مرتبة الخصوص أن الأسباب ولكن الخاص يفعل الأسباب لأجل الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى. فيها هيا بنا نرى أمثلة لذلك: رجل فقد ابنه وهو من العوام يبكي، لماذا؟ لأنه حزين، فراق الابن أنشأ في قلبه حزناً.
نعم، يحاول أن يتجلد وأن يصبر لأن الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى. أما الخاص فمثل... الشبلي رحمه الله تعالى حيث أخبروه بوفاة ابن له فضحك. هذا ليس معتاداً، هذا مخالف للطبائع العادية الغالبة، ولكنه رأى في ذلك ثواباً من عند الله، ورأى في ذلك كرامة ومنحة في تلك المحنة. فضحك تذكراً أن هذا الولد سوف يأخذ بيده إلى الجنة يوم القيامة، وتلبسته هذه الحال إذاً. فقلبه متعلق بالله،
وهناك خواص الخواص كسيد المرسلين، بل هو أعلى من ذلك، هو أكثر بِرًّا، ولكن حال خواص الخواص كحاله. عندما توفي إبراهيم بكى، لماذا؟ لأن الله بموت إبراهيم كأنه يقول له: ابكِ، لأن هذا بإزاء هذا. قلبه صابر ومستقر ومتعلق بالله سبحانه وتعالى، ولكن العين تدمع والقلب يحزن لا نقول ما يغضب الله. ثلاث درجات إلى لقاء آخر. أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله