طريقنا إلى الله | حـ 27 | عقبات الطريق إلى الله | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى نرى هناك عقبات في الطريق إلى الله، نرى عقبات تتمثل في محاولتنا لفطم الجوارح عن المخالفات، فطم الجوارح عن المعاصي، عن الذنوب والآثام، وهذا يأخذ وقتاً ويحتاج دربة. وهمة عالية، فطم الجوارح أمر مهم، وعندما
أفطم الجوارح عن المخالفات أجد لذة في قلبي. يرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قضية غض البصر، وغض البصر قد يكون عن أمور فاتنة توقعنا في الفتنة كنظر الرجل إلى المرأة، وقد يكون كنوع من التلصص وعدم احترام الخصوصية كالنظر إلى مغلق ليس لك فيه شأن أو النظر إلى رسالة أخيك وهو يقرؤها، وكل ذلك نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال: "إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، والاشتغال بعيوب النفس أولى من الاشتغال بالخلق.
فطم الجوارح عن المعاصي والمخالفات، هناك أيضاً فطم للقلب عن... الرعونات في بعض الأحيان لساني لا يعمل بالكذب ولا يعمل بالغيبة ولا يعمل بالنميمة ولا يعمل بالقذف والسب وما إلى ذلك، ولكن قلبي يعمل بالتعالي والاحتقار والتكبر والسب والشتيمة ونسبة الأشياء الباطلة أو السلبية إلى الآخرين، فيفقد حسن الظن. فهذه رعونات، فيجب أن نفطم القلب، والفطام كالطفل الصغير، والنفس كالطفل. أن
تتركه شباً على حب الرضاع، وأن تفطمه، يا فلتنفطمي، هذه سنة الله في خلقه. لو تركنا الطفل يرضع من أمه لوجدنا شاباً فتى عنده اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة وهو يرضع من أمه، لأنه لم يستطع أن يفطم نفسه عن هذا الشأن، ولكن بعد السنتين تبدأ الأم تضغط على قلبها لأنها تملك قلباً يدعوها إلى تلبية احتياجات الصغير، لكنها ترى أن هذا لمصلحة الصغير، ومن أجل هذا تضغط على نفسها وهي متألمة وهي ترى الطفل يبكي من أجل الرضاع ويرفض ما سواه، إلا أنها تفطمه عن هذا. والنفس
كالطفل، إن تتركه شبَّ على حب الرضاع، وإن تفطمه. ينفطم إذا أولاً فطم الجوارح، وثانياً فطم القلب. هناك مرحلة ثالثة وهي فطم القلب عن الكدورات. القلب تصيبه كدورات، وأنا أريد فطم الروح عن هذه الكدورات. فهناك فطم للجوارح، وهناك فطم للقلب، وهناك فطم للروح. القلب كأنه يمثل الجسد البشري الداخل في حقيقة الجوارح، والروح تمثل ما به الحياة لأن... هذه الروح من أمر
ربي وهذه الروح هي التي سببت الحركة المريدة لذلك الجسم. هناك أيضًا فطم النفس، وفطم النفس يتمثل فيما ذكرناه من المراتب في الانتقال من النفس اللوامة إلى النفس الملهمة، من النفس الملهمة إلى النفس المطمئنة، فالنفس الراضية، فالنفس المرضية، وإلى النفس الكاملة في النهاية التي تُعَدُّ. في الوراثة المحمدية فطم النفس أيضاً عن هذه التراهات التي تكتنف النفس، فطم الجوارح، فطم القلب، فطم الروح، فطم النفس. هناك
أيضاً فطم العقل من الأفكار المختلة المتخلفة. العقل عندما ينفصل عن القلب فإنه قد يأخذ بظاهر الحال، ظاهر الحال التي تؤكد له أن الشمس تتحرك، ظاهر الحال الذي أخذه. من الحس والذي لا يجعله قادرًا على التجريد والتفريد والتوحيد ظاهر الحال الذي يجعله مندرجًا تحت التجربة المحضة دون نور البصيرة الذي هو كنور البصر وكنور العين، فإن هذا الأمر قالوا فيه إنه يجب أن يعلو القلب على العقل وأن
يعلو العقل على السلوك، فإذا عُكس الحال وتمكن السلوك من استخدم العقل واصمت. وصل العقل والقلب بنا إلى المادية المفرطة في ماديتها والمخالفة لسنن الله سبحانه وتعالى في كونه. إذاً، فمن عوائق الطريق هذه الحواجز، ومحاولتي لفطم الجوارح تُعدّ عائقاً من عوائق طريقنا إلى الله. ومحاولتي لفطم القلب أو فطم الروح أو فطم النفس أو فطم العقل، كل ذلك هو... عوائق نحاول أن نتخطاها في الطريق إلى ربنا سبحانه وتعالى. رفع هذه العوائق يُحدث
رفعاً للحجب. الله ليس بمحجوب، أنا الذي حجبت نفسي بشهواتي ورغباتي. أنا المحجوب، الله سبحانه وتعالى لا يحجبه شيء، ولكن الحجابات الكثيرة المتكاثرة التي يقول عنها أهل الطريق إن عددها سبعون حجاباً وفي كل حجاب هناك... سبعون حجابًا أو سبعون درجة وهكذا حُجُب كثيرة جدًا، ولكن لو رُفعت هذه الحُجُب، كيف تُرفع هذه الحُجُب؟ تُرفع بإزالة العوائق حتى تنكشف الحُجُب. لو رُفع الحجاب ما ازددت يقينًا، يعني هنا علم اليقين
كعين اليقين كحق اليقين، يعني هذه الدرجات من المعرفة أصبحت وكأنها واحدة. هذه العقبات في الطريق. لو رُفعت، سهُل الأمر على السالك، ومن أجل ذلك يحاول الشيخ في أثناء تربيته مع ما كان يفعل من التخلية والتحلية أن يزيل من أمام المريد العقبات. التخلية والتحلية تكون تربية ذاتية لنفس الإنسان، أما هذه العقبات فهي خارجة عن الإنسان، يحاول الشيخ أن يرفعها من طريقه فيفطم النفس. عن التوجه قلباً وروحاً وجوارحاً ونفساً
وعقلاً، وكل ذلك يُحدِث سهولة في التربية وسهولة في تحصيل المراد من عند رب العباد. الفواطم أو العواقب هذه يجب أن ندرسها وأن نتعمق فيها وأن نفهم أسبابها وأن نعرف أحوالها، ثم نبين كيف نزيلها. احفظوها: فطام الجوارح، وفطام القلب، وفطام الروح، وفطام النفس. وفِطامُ العقلِ بذلك يَشعُرُ الإنسانُ أنّه قد رُفِعَت عنه الحُجُبُ، فيَسهُلُ عليه السَّيرُ في الطريقِ مُنطلقاً إلى مَقصدِه. إلى لِقاءٍ آخرَ، أستودعُكُم اللهَ، والسلامُ عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.