طريقنا إلى الله | حـ 29 | الخواطر | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى يحدث للإنسان خواطر، ومراتب القصد خمس: هاجس، ذكر، فخاطر، فحديث النفس، فاعتبر، يليه هم، فعزم. كلها رُفعت سوى الأخير، ففيه الأخذ قد وقع. بمعنى أن الإنسان إذا قصد... شيئًا مرَّ بهذه المراحل الخمسة في نفسه من الداخل في باطنه، الهاجس، والهاجس صورته
أن يأتيني الشيء ويمر مرور الكرام. نفترض مثلاً أنه هاجس معصية، فتأتي زجاجة الخمر والعياذ بالله تعالى وتمر أمامي هكذا في ذهني، صورة تسمى هاجسًا. لو ثبتت تسمى خاطرًا، إذًا الخاطر هو ما ثبت من الصور. لو أنني أنشأت حديثاً بيني وبين نفسي فقلت: لم أتصور أو تأتيني هذه الصورة وتثبت هذه خمرة، ولهاذ بالله تعالى، هل
تأتيني من أجل أن تنبهني إلى أن أشربها يعني وأرتكب معصية؟ أعوذ بالله، أنا لا أريد أن أرتكب المعصية. حديث نفس، أمارة بالسوء فتدعوني إلى فعل المعصية ونفس. لوّامة تدعوني إلى عدم الوقوع في هذه المعصية. إياك! هذا يغضب الله. يصبح هذا الحديث يسمى حديث النفس. وهناك أيضاً مرحلة أخرى وهي أن هذا الشخص الذي عُرضت عليه هذه المعصية - والعياذ بالله تعالى - كحديث للنفس، مال قلبه لفعلها. قال لنفسه: "حسناً، ماذا يحدث لو جربت؟ ماذا يعني
لفعلها فيكون قد همَّ بفعلها، تصور أنه يشربها، وبعد ذلك هناك مرحلة خامسة وهي أنه ينوي القصد المؤكد، ينوي شربها، خلاص قرر وعزم، فهذه يسمونها العزيمة، والعزيمة معناها القصد المؤكد. المراتب خمس منها الخاطر، إذا الإنسان نوى لكنه رجع في نيته، الله يعطيه حسنة، فلو أنه فعل تلك المعصية يعطيه. حساباً
وعقاباً واحدة سيئة واحدة، ولو أنه فكر ووصل إلى النية في أمر حسن ولم يفعله أخذ حسنة، فإذا فعلها أخذ عشر حسنات. فإذا فعل الطاعة أخذ عشرة ثوابات، وإذا لم يفعلها ونواها ولم يفعلها أخذ حسنة واحدة، وإذا فكر في السيئة ونوى السيئة ولم يفعلها أخذ حسنة، فإذا... فعلها أخذ سيئة واحدة وليس عشرًا. الخاطر إذا هو ثبوت الصورة وعرفنا ما حوله من مراتب القصد المختلفة: الهاجس فالخاطر فحديث
النفس فالهم فالعزم أو النية. هذا الخاطر قسمه أهل الله إلى خاطر رحماني من الرحمن وخاطر ملكي من الملك وخاطر نفساني من نفس الإنسان وخاطر شيطاني والعياذ بالله تعالى. على سبيل الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، فالخاطر على أربعة أنحاء، عندما يكون الخاطر وهذه الصورة صورة طيبة فيها بشرى، فيها تعليم للأدب مع الله، فيها فتح،
تكون من الرحمن، عندما يكون فيها طمأنينة، فيها سلام، فيها روح وريحان وجنة نعيم، فيها سعادة، فيها انبساط. فهي من الملك عندما تكون مني من نفس الإنسان، فقد تكون طيبة وقد لا تكون كذلك. والخاطر إذا كان مني يتكرر، أي بعد أن تكون هذه الصورة عندي سواء كانت ملكية أو كانت شيطانية، لأن النفس لديها الطريقان: الخير والشر، فقد يتصور وهم نفساني يكون من عندي، وقد يكون خيراً. وقد تكون شراً لكن إذا زالت وذهبت
ثم عادت مرة أخرى ثم زالت وذهبت ثم عادت مرة أخرى ثم ذهبت وعادت مرة أخرى، أعرف أنها من نفسي لأن الشيطان وسواس خناس، يجري يلقيها ويجري، لا يسأل فيها، فهو ليس متفرغاً، أما النفس التي بين جنبي فهي تكرر وتلح فهي... أمارة أي علامة، تعني أن تأمر مرة بعد مرة بعد مرة بعد مرة، فالتكرار يدل على أنها من نفسي وليست من الشيطان، وعدم التكرار يدل على أنها من الشيطان وليست مني. الخاطر إذا جاء طيباً فإنه مفيد، يُسعدني ويوجهني
ويعلمني، وإذا كان غير ذلك، يلومني ويضايقني، ويجب علي ألا أتمادى غير الطيبة، أما الخاطر الشيطاني فهو يريد الفتنة بأي وسيلة. في هذا المقام يحكي لنا الشيخ عبد القادر الجيلاني شيئاً يفيدنا في طريقنا إلى الله. يقول إنه كان في الخلوة، وعرفنا ما الخلوة: مثل غار حراء، مثل قضية الاعتكاف، خلوة يذكر فيها ربه وتقل فيها الأنام والمنام والكلام والطعام فيما. ذكرناه كان في الخلوة وإذ بالخلوة ونحن في الليل
تمتلئ نوراً. قال: "ما رأيت أجمل منه، النور جميل جداً". وإذ بي أسمع بأذني صوتاً ما سمعت أحلى منه، سمعت صوتاً جميلاً ملأ كيان الخلوة يقول: "يا عبد القادر". قال: فذبت كما يذوب الملح في الماء من حلاوة الصوت ومن الرهبة. من الهيبة نور جميل لذيذ وأنا في وسطه صوت جميل ولذيذ أسمعه في الخلوة ويقول: "يا عبد القادر".
قال: "لبيك" يعني نعم. قال: "يا عبد القادر لقد أحببناك". قال: "فازددت ذوباناً". من هذا؟ ملاك؟ ما هذا الصوت؟ من أين يأتي؟ "وقربناك". جميل. "يا عبد القادر لقد أحللنا لك الحرام" وهذا بعض الناس عندما يرى مثل هذه الترهات يعتقد أنه قد أسقط عنه التكليف. قال الشيخ عبد القادر: "فقلت: اذهب يا لعين، خلاص فهم أن هذا من تلبيس الشيطان، وأن
الشيطان يفعل هذه الأفاعيل للسالك في طريق الله حتى يصده عن ذلك الطريق أو يشوش عليه". قال: "فانطفأ النور وسمعت صوتاً سمعت أقبح منه قط وهو يقول: "علمك نجاك يا عبد القادر، أخرجت بمثلها سبعين ولياً من ديوان الولاية"، يعني هناك أناس - والعياذ بالله - يطيعون هذه الترهات. الخواطر منها شيطاني، ولذلك يجب ألا نستجيب إليها، وأن نتعلم من أسيادنا الأكابر. اذهب يا لعين، فهذا لو كان مراد الله أن لا تُسقطه عن سيد الأولين الذي قال فيه: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، يعني حتى يأتيك
الموت. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.