طريقنا إلى الله | حـ12 | الإشراقات جـ1 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، عرفنا أن طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى مقيد بالكتاب والسنة وأن أساسه الذكر والفكر وأن أيضاً لا بد في أسسه من التخلي عن كل قبيح ومن التحلي بكل صحيح، وبالتخلي عن القبيح والتحلي بالصحيح. يحدث التجلي، والتجلي يُسمى عند أهل الله بالإشراقات. من هذا التجلي أن الإنسان يرى نفسه وقد جرت على يده خارقة من خوارق العادات. يرى نفسه وكأنه
قد خف وزنه وهو ينزل على السلم، وكأنه يرتفع عنه، يشعر بهذا. يرى نفسه وقد زادت البركة في الطعام، وقد زادت البركة في الشراب. يرى نفسه وقد زادت البركة في الملبس، فالشيء الذي يبقى سنة وسنتين يبقى معه عشر سنوات وهو في منتهى الجدة. يرى نفسه أنه مستجاب الدعاء بطريقة فعلاً ليست هي الطريقة المعتادة، يرى أن شيئاً ما مختلفٌ اختلافاً تاماً عما حوله.
الكرامات تأتي في بدايات الطريق من أجل أن تثبت قلبه السائر. إلى الله في طريقنا إلى الله، الكرامات مهمتها أن يدرك المريد أن خلف هذا العالم المنظور عالماً غير منظور، وأن خلف هذا الشاهد عالماً غائباً له قوانينه وله أحكامه. الكرامات تأتي في البداية لا في النهاية، حتى قالوا إنه كلما تقدم الإنسان في الولاية وفي اليقين مع الله سبحانه وتعالى. قلت كراماته أو انعدمت كشأن الصحابة الكرام، حدثت لهم كرامات في صور مختلفة. كان عبادة بن
الصامت إذا دخل البيت سمع بأذنه سلام الملائكة، حتى إذا اكتوى واستعمل الكي كعلاج لم يسمع شيئاً، فترك الكي فرجع له السلام وسمع السلام. كان أحدهم يمسك صوتاً فأضاء له، فالكرامات... معترف بها عند أهل السنة والجماعة وحادثة ومشاهدة حتى قالوا إن كل كرامة لولي معجزة لنبي. النبي صلى الله عليه وسلم جرت على يده المعجزات متحدياً بذلك العالمين في أنه نبي من عند الله سبحانه وتعالى. ألف معجزة رآها الصحابة الكرام، منها أن الجذع قد حن له وسمعه
الصحابة في بكائه حتى إذا ما احتضنه سكن وسكت وتكلم معه، فقيل له: "يا رسول الله، ماذا قلت له؟" قال: "قلت له: ألا تحب أن تكون رفيقاً لي في الجنة؟" فسكن. خطبته للحيوانات صلى الله عليه وسلم، كثُر الماء من بين أصابع يديه حتى سقى الجيش، كثُر الطعام حتى أطعم العدد الكبير. ببركته صلى الله عليه وسلم كانت معجزات كثيرة حتى قالوا ما من معجزة لنبي سابق إلا وقد جرت على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الكرامات ليست مقياساً للحق، هي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، إنما لا نلتفت إليها ولا نعتبر بها مقاماً
لأنفسنا جرت على أيدينا. كرامة أنا أحسن من غيري، إذاً فهذا هو عين الضلال المبين. فتولدت من هذه الإشراقات التي رقمها واحد فيها الكرامات قاعدة مهمة تضبط الطريق إلى الله: ملتفت لا يصل. إياك أن تلتفت إلى الإشراقات. الإشراقات تحدث، نحمد الله عليها، نتلذذ ببعضها، نتأدب ونتعلم منها، ولكن لا تجعلها حجاباً بينك وبين. الإخلاص فقالوا إن الملتفت لا يصل إلى نهاية الطريق، لا يصل إلى الله الذي هو مقصود الكل. وأصبحت عبارة "ملتفت لا يصل" من أهم المهمات. والسؤال:
يلتفت إلى ماذا؟ إلى الإشراقات. قل لنا ما الإشراقات؟ رقم واحد: الكرامات، رقم اثنين: الرؤى. بعض الناس يظن أنه كلما رأى خيراً فهو على خير. لا، الرؤيا بشرى صالحة لتهدئة البال، ولإصلاح الحال، وللإرشاد. انقطعت النبوة ولم يبقَ إلا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرى له. فالرؤيا الصالحة لها هدف ووظيفة، والرؤيا الصالحة ليست من أجل أن تتكبر بها، ولا من أجل أن تتعالى، ولا من أجل أن تقف عندها وكأن العالم قد انتهى. عند هذه الرؤية كل يوم يقول
لي: أنا أرى الأنبياء، أنا أرى المرسلين، أنا أرى سيد الكون. نعم، لا بأس. هذه نعمة أنت تتفاخر الآن بنعمة أنعم الله عليك. مهمتها أن تشكر الله، أن تزيد من ذكره، أن تزيد من تدبرك ومن عبادتك ومن فعلك للخير للناس. هذا ليس معناه... أن تقف عندها ولا أن تلتفت إليها ولا أن تجعلها حجابًا بينك وبين الوصول في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى. من الإشراقات أيضًا الإشارات، والإشارات معناها أنني أفكر فيما إذا أذهب أو لا أذهب إلى مكان ما، فأقف بسيارتي،
فإذا بي أسمع أحدهم وهو يقول للآخر: "توكل على الله". اذهبْ ولا يكون إلا خيراً. طبعاً هو يقول هذا ليس له ولا يعرفني ولا يقصدني، إنما كان الله سبحانه وتعالى أرسل هذه الإشارة إجابةً على هذا السؤال الذي خطر في بالي. فهذه تُسمى الإشارات، لا نلتفت إليها بمعنى أنني كنت أنوي أن أذهب إلى مكان سيء فسمعت هذه الإشارة لا. أقول هذه إشارة وهذه من الإشراقات فهي إذاً تبيح لي أن أذهب إلى هذا المكان الذي أعرف أن فيه إثماً
وأن فيه معصية وأنني قد أُستدرج إلى آخره. لا اعتبار بالإشارات كما أنه لا اعتبار بالرؤى كما أنه لا اعتبار بالكرامات إذا خالفت شريعة الله، لكن لو كنت أذهب من أجل فعل مباح بناء شركة أو زواج أو شراء كتاب، ولا أعرف إذا كان المحل مغلقًا أو غير مغلق، فقال: "فسمعت هذا، اذهب وتوكل على الله ولا تجد إلا خيرًا، قم واستبشر". كان رسول الله يحب البشرى في كل شيء، ويأخذ نفسه فيذهب فيجد فعلًا المحل مفتوحًا على غير العادة. ويجد الكتاب الذي أراده ويرجع منشرح الخاطر. إذاً لا نعتمد، ولا نلتفت، ولا نجعل
هذه الإشراقات كالكرامات والمنامات والإشارات. لا نجعلها هدفاً لنا، ولا نجعلها سنداً لأنفسنا، ولا نجعلها شيئاً نلتفت إليه فيحجبنا عن الوصول إلى الله. من الإشراقات كثير، منها الواردات، ومنها الخواطر، ومنها الكشف، ومنها الأسرار، ومنها الأنوار. كل ذلك نتعلم منه الأدب مع الله دون أن نلتفت إليه، فإن ملتفتاً لا يصل إلى لقاء آخر. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.