طريقنا إلى الله | حـ5 | الاستغفار | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه معًا في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى تكلمنا عن العشرة الطيبة سبحان الله الحمد لله لا إله إلا الله أكبر لا حول ولا قوة إلا بالله استغفر الله إنا لله وإنا إليه راجعون حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلت على الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد عرفنا كثيراً من معاني هذه الكلمات الطيبات، وعرفنا أن الخمسة الأولى تسمى بالباقيات الصالحات، وكلمة "استغفر الله" مفتاح
مهم، مفتاح مهم في قضية الذكر، والألف والسين والتاء في لغة العرب تدخل يعني أن أطلب المغفرة من الله والغفران قد يكون من الغفلة وقد يكون من القصور وقد يكون من التقصير وقد يكون من الخطيئة وقد يكون من الخطأ، ولكل واحدة من هذه الأقسام معانٍ وتشعبات، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا الاستغفار
حتى قال إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في مائة مرة وذلك أن القلب له بابان: باب على الخلق وباب على الحق. باب أتعامل فيه مع هذه الأكوان والرسوم والأشخاص والأحوال، مع الزمان والمكان الذي وضعنا الله سبحانه وتعالى فيه. ونحن مأمورون بأن نعمر هذه الدنيا، هذا أمر إلهي ومراد رباني وامتحان واختبار من عند الله سبحانه وتعالى، فلا... لا بد أن أنجح
في هذا الاختبار والامتحان، الامتناع عن الفساد في الأرض، بل وتعمير هذه الحياة وتعمير هذه الأرض. ولذلك فالباب الذي هو مفتوح على الخلق لا بد أن يظل مفتوحًا حتى نحقق مراد الله سبحانه وتعالى في الاتصال بهذا الكون والاتصال بهذا العالم والاتصال بهذه العمارة. "إني جاعل الأرض خليفة، يتخلق بأخلاق الله، خليفة يتعلق بجلال الله، خليفة يصدق بكمال الله سبحانه وتعالى. الجمال والجلال والكمال، وسنرى
معاً كيف أن أسماء الله الحسنى أيضاً فيها هذا التقسيم: أسماء جلال وأسماء جمال وأسماء كمال. نعم، باب الخلق للعمارة "إني جاعل في الأرض خليفة"، فالله سبحانه وتعالى أمرنا فقال. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها أي طلب منكم عمارها والله لا يحب الفساد. الله سبحانه وتعالى لا يحب المفسدين ولا يحب العدوان ولا يحب الظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، إلى آخر هذه المنظومة الأخلاقية التي بينها
لنا ربنا سبحانه وتعالى في الكتاب وشرحها لنا رسول الله صلى الله عليه. وسلم في السنة باب الخلق يجب أن يكون مفتوحاً وباب الحق باب يفتح للضراعة إلى الله سبحانه وتعالى. فإذا فُتح باب الحق دخلت منه الأنوار، وإذا فُتح باب الخلق دخلت منه الأغيار. تعني أحوال الدنيا من الشهوات، من الرغبات، أحوال الدنيا من النكد، من الكدر، أحوال الدنيا من الاختلاف. من تنوع أحوال الناس
في الدنيا، سواء كانت صالحة أو طالحة، أحوال الدنيا من الخير ومن الشر، أما باب الحق فلا يدخل منه إلا الأنوار، وغير هذه الأنوار يُسمى أغيار، أي غير النور، فيدخل فيها ما قد يكون أنواراً باهتة، قد تكون حسب تقويمنا لها في الحياة الدنيا بمقياس الشرع. الشريف وبمقياس الله فباب الخلق يدخل منه الأغيار وباب الحق يدخل منه الأنوار. إذا اشتد الإنسان في الأنس بالله وفي طاعة الله وفي ذكر الله تشتد هذه الأنوار، تشتد هذه الأنوار، تشتد
هذه الأنوار حتى تغلق باب الخلق ويصبح الإنسان في هذه الحالة قد فتحت له أبواب الحق وأغلق عليه. باب الخلق للإنسان حينئذ يستلذ ويشعر براحة وأنس أنه ابتعد عن المشكلات وعن العالم وعن أحوال الدنيا بما فيها من نكد وكدر وتغير واختلاف إلى آخره، لكنه يرجع فيرى أنه لا بد من فتح باب الخلق طاعة لله وتبليغاً لرسالته وعملاً بأوامره في عمارة الأرض، ولذلك يستغفر رسول الله صلى. الله عليه وآله وسلم من عين
الأنوار لا من عين الأغيار. لو الأغيار فقط تدخلت تُغلق باب الحق ويصبح الإنسان غافلاً. لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم غافلاً، كانت تنام عينه ولا ينام قلبه أصلاً بعد شق صدره الشريف وملئه بالحكمة، أصبح قلباً ضارعاً وهذه الحادثة حدثت مرتين. أو ثلاثة بعد الإسراء والمعراج بعد نزول الوحي عليه، كل هذه الأشياء ما جعلت هذا القلب أصلاً غافلاً، فباب الخلق لم يُغلق أبداً عنده، وإنما كان يستغفر من غين الأنوار التي كانت تغلق باب الخلق، ثم يستغفر الله حتى يفتح له باب
الخلق حتى يقوم بتبليغ رسالته إلى الناس، فكان استغفاره علو في المقام، ولم يكن استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم ناتجاً من ذنوب أو أخطاء أو نقص، حاشاه صلى الله عليه وسلم، فقد كان هو الإنسان الكامل الذي قال فيه ربه: "وإنك لعلى خلق عظيم"، والذي قال فيه ربه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، والذي قال فيه ربه. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا والذي قال فيه ربه إلى ما لا نهاية في تعظيم القرآن الكريم لشأن
سيد المتواضعين: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر". لا يقولها فخرا وإنما يقولها لبيان منة الله عليه صلى الله عليه. وآله وسلم، فالقلب له بابان: باب على الخلق وباب على الحق. من الحق تدخل الأنوار، ومن الخلق تدخل الأغيار. ونحن بين أربعة أمثلة: أما إذا كان البابان مقفلين فهو مجنون، وأما إذا كان باب الخلق مفتوحاً وباب الحق مغلقاً فهو غافل، وأما إذا كان باب الخلق مغلقاً وباب الحق مفتوحاً عن التمام والكمال في فتح البابين، كان قلبه صلى الله عليه وسلم منفتح البابين،
وكان استغفاره من غين الأنوار لا من غين الأغيار. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.