عن الحداثة و التحديث | أ.د علي جمعة

اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد. الحداثة والتحديث هي مذهب فكري ظهر في أوروبا مع التنويريين، وهؤلاء التنويريون يمكننا أن نضع لهم علامة مؤقتة كجان جاك روسو وفولتير وأمثالهم. وقد تمكنوا بعد الثورة الفرنسية، لكن أفكارهم كانت موجودة قبل الثورة الفرنسية، أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. عشر وفيها محاولة جادة للخروج عن سلطان الكنيسة الكاثوليكية ولذلك آخر محاكم التفتيش لما انتهت ألف ثمان مائة وثلاثين ويمكن في ألف ثمان مائة وثلاثين نعد مرة ثانية من تمكن فكر الحداثة، وفكر الحداثة أصدر له البابا أنه يحرم سبعين علماً، البابا سبعين
علم في خطاب له اسمه باسنت والخطابات. البابوية تُسمى بأول كلمة فيها، فكلمة "باسنت" هذه كلمة لاتينية، أي مثلاً "وأما" يعني "أم"، ليس لها معنى مستقل هكذا. أما "ده" فهو حرف كأنه حرف "باسنت". سُمي بهذا الخطاب خطاب "بسنت" الذي حرّم فيه البابا سبعين علماً، لأن هذه علوم تخدم الحداثة، والحداثة هذه حرام. بعد ذلك غيروا رأيهم. لكن حينئذ في أوائل القرن التاسع عشر حصل هذا، فظلت هذه الأفكار تختمر وهي أفكار كلها مبنية على أن العالم يسير بنظام دقيق، فليس هناك حاجة إلى الإله. هل
انتبهت كيف أن نيوتن عندما جاء كان متديناً، فقال إن العالم له نظام دقيق يسير مثل الساعة، لكن تقريباً ربنا... لا أستطيع أن أقول إنه لا يوجد إله، لأنني كنت مؤمناً أنه خلقنا وتركنا هكذا، مثل الساعة التي تعمل بمفردها. هل أنت تحرك عقرب الساعة؟ الدنيا تسير هكذا فقط، لكن الله ليس له علاقة بنا، هو خلقنا وأعطانا عقلاً وتركنا. من الذي يقول هذا؟ نيوتن، ثم جاء بعد ذلك. الفلكيون، وكان منهم لابلاس، فلما ألّف كتاب الأجرام السماوية قدَّمه هو وأعطاه لنابليون. كان نابليون من كورسيكا وكان، يعني، ذكاؤه حادًا بعض الشيء، فقال له:
"الله! أنت لم تكتب فيه عن الله". قال: "لست في حاجة إليه". أتفهم؟ ومن هنا بدأت قصة تنحية مسألة الإله للأسف. ولا بالشر، يعني هو لم يقل إنه لا يوجد إله، لكنه يقول: "أنا لست في حاجة إليه". نعم، الله موجود، لكنني لست في حاجة إليه. الحول والقوة له. واستمرت هذه الأمور من الحداثة حتى عام ألف وتسعمائة وتسعين، وفي عام ألف وتسعمائة وتسعين بدأت مذاهب أخرى. وُلِدَت منذ عام أربعة وسبعين، اسمها البوست مودرنيزيشن، أي ما بعد الحداثة. الحداثة تقول إن أهم شيء هو الدنيا، وليس لنا شأن بمسألة وجود إله أو عدم وجوده. إن كنت ترى أن هناك إلهًا فليكن، وإن كنت ترى أنه لا يوجد إله فلا يوجد،
أنت حر. لكن ما بعد الحداثة تقول: لا، هذا الكون ونحن... سنقدّر ما قبل الحداثة، أي أن الحداثة تعني أن قضية الألوهية منحّاة، لكننا سنفهم هذا الكون بالسبعين علماً هؤلاء: الجيولوجيا والكيمياء والفيزياء والصوت وهكذا. سنفهم الكل. أما ما بعد الحداثة فتقول: أبداً، لم نفهم شيئاً. ها نحن لدينا مائة سنة وأكثر، مائة، مائتان سنة، مائة وخمسون سنة، ولم نفهم شيئاً. وهذا... دليل ماذا لا يرجع إلى الألوهية؟ لا، الدليل على أن هذا العالم لا يُفهم يا صديقي، وماذا يعني ذلك؟ قال إن هذا العالم فوضى بلا ضابط ولا رابط ولا قوانين ولا أي شيء، ولا نحن نريد أن نفهمه أيضاً.
فهذا كنا قديماً نسميه العبثي والفوضوي، الفوضوي الأناركي، ما هذا الأناركي يا سيدي؟ أنت ماذا يقول لك أناركي، أناركي يعني فوضوي، يعني ماذا؟ التي يسمونها ماذا؟ نهارك سيء وليلك نائم، كذلك في الدنيا تعيش البهائم، هذه هي الأناركية. فبعد الحداثة حصلت وأثرت في الفنون وفي الآداب وفي الشعر وفي الرسم وفي كل شيء، لأنه ما فائدتي أنا في الحياة، لا يوجد إله. ما فائدة هذه الحياة؟ إنها خدعة مغرية حقاً. إذا أصبحت الدنيا بلا آخرة، وأصبحت الدنيا بلا رب، فهذه خدعة لا يعلم
عواقبها إلا الله. إنها حيلة قوية جداً. فهم يا عزيزي لديهم اكتئاب نفسي وتوتر عصبي وقلق، ويدعون الناس لمشاركتهم هذا القلق. لا تجلسوا معهم. وتعملوا هذا التحديث، هذه كلمة معناها أنني لست سائراً في الطريق بل فارس في الطريق، ليس عندي طائرة فأحضر طائرة، ليس عندي سيارة فأحضر سيارة، أغسل بيدي فأغسل بغسالة أوتوماتيكية، إلى آخره. فهذه لا علاقة لها بالأمر. السؤال الثاني كان ماذا؟ ما قلت لها نعم وحتى ألف وتسعمائة. وجدنا أن حركة التحديث بدأت
تتشكل في بوادرها في عام أربعة وسبعين، حيث كانت تتحدث عن الجندر والعلاقات الثنائية وما شابه والأسرة البديلة، ثم استمرت في التطور حتى بدأت تظهر بشكل صريح وواضح في التسعينيات.