قواعد الفقه الإسلامي| الميسور لا يسقط بالمعسور | ح22 | أ.د. علي جمعة

أيها الإخوة الأعزاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نلتقي اليوم مع قاعدة فقهية من القواعد التي صاغها الفقهاء ليجمعوا بها كثيراً من الفروع التي تشتتت في أبواب متعددة. هذه القاعدة يقول فيها الفقهاء: "الميسور لا يسقط بالمعسور". وهذه من القواعد التي نرى فيها تأنق العبارة وترقيقها، لأن كلمة الميسور بينها... وبين المعصور حرف واحد، الياء والعين، فهذا التوازن كان
مقصده حفظ مثل هذه القواعد حتى يحفظها طلاب العلم ويحفظها عموم الناس. "الميسور لا يسقط بالمعسور"، "اتقوا الله ما استطعتم"، هذا دليلها. ما استطعت فلتُقدِّم إلى ربك ما تستطيعه، حتى إذا أعيتك الحِيَل وسُدَّت أمامك الطرق، فإن الله لا يكلف نفساً. إلا وسعها فإذا كنت من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، اكتفى الله سبحانه وتعالى منك بما تستطيع. وهنا نرى أن الميسور لا يسقط بالمعسور. لو
أن معي من الماء ما يكفي الوضوء، والواجب علي أن أتطهر من الجنابة، والطهارة من الجنابة تحتاج أن أغتسل، والاغتسال يأخذ كماً أكبر. من الماء فإنني أتوضأ بما قد يسّره الله لي ثم أتيمم ثم أصلي، هذا مذهب الشافعية تطبيقاً للقاعدة أن الميسور لا يسقط بالمعسور. ليس لأنني غير قادر على الاغتسال أنفي استعمال الماء بالكلية، بل أستعمل ما معي من ماء على قدره وإن كان قليلاً، ثم بعد ذلك ولأنني لم أتطهر الطهارة الكاملة التي
تمكنني من الصلاة، ولأنه ما زال هناك حدث عندي، والحدث أمر اعتباري أمر تقديري كأنني أفترضه قائماً بالأعضاء قائماً بالجسم يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص لذلك، فأنا عندي هذا الحدث، والحدث هذا الذي لم أستطع أن أزيله لأنه ليس معي إلا القليل من الماء. أستطيع أن أستبيح الصلاة بموجب التيمم، فالتيمم طهور من لا طهور له، ومن فقد الماء ولو حياته كلها يتيمم ويصلي، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. إذا كان شخص - وهذا يحدث كثيراً خاصة عند كبار السن - غير قادر
على غسل رجله لأنه لا يستطيع أن يرفعها أو أن يغسلها الوضوء وليس هناك من يعينه فليتوضأ، يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه، ثم بعد ذلك يتيمم، يجمع بين الوضوء والتيمم ثم يصلي، لأنه وقع في هذه القاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور. شخص آخر أيضاً لا يستطيع الركوع لعلة في جسمه، لكنه يستطيع السجود ويستطيع القيام، فإنه يقوم ويقرأ الفاتحة في... الصلاة ويصلي مع الجماعة وهو قائم سواء وحده أو مع الجماعة وهو قائم، ثم عندما
يأتي الركوع يجلس على الكرسي ثم يقوم ثم يسجد على الأرض سجدتين وهكذا إلى آخره، لأن المقدور عليه وهو تلك الحركات التي قد تيسرت له لا تسقط بالمعذور فيه، فمثلاً لديه تكلفة الذهاب إلى العمرة. والعمرة فرض وليس معه تكلفة الذهاب إلى الحج، والحج فرض، فالحج والعمرة فرضان على المكلف مرة في العمر. فإنه يذهب لأداء العمرة حتى لو لم يستطع أن يذهب في أشهر الحج لارتفاع تكلفتها ولعدم مقدرته على الحج، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. مثلما
من استطاع أن يصوم من رمضان وهو ما استطاع ولم يستطع الباقي فليصم ما استطاعه ثم بعد ذلك يفطر في الباقي لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. ليس لأنه غير قادر على الصيام في أيام معينة يفطر كل رمضان. فبعض الناس تحتاج إلى عمل تحاليل أو إلى عمل أشعة أو إلى الذهاب إلى الأطباء لفحوصات معينة تستوجب الإفطار في أيام معينة، والطبيب لا ينصح بالصيام حين لا تسمح الحالة بذلك، ولكنه لا ينصح بعدم الصيام في الأيام الأخرى. فهذا الإنسان يأتي في اليوم الذي عليه إجراء هذه الفحوصات
والذي استوجبت حالته أن يعملها، فليعملها وليفطر، ولكنه يصوم بقية أيام رمضان، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كالذي عليه دين فإنه يسدد ما استطاع منه وإلا يدخل في دائرة المَدين المُثقَل. فلو أن معه نصف الدين، عليه أن يعطيه لصاحبه ولا يحبسه. كثير من الناس يحبسون هذا ويقولون: "أنا أخجل من صاحب الدين، سأبقي هذا المبلغ عندي حتى يكتمل المال كله ثم أعطيه لصاحبه". لا، هذا خطأ، لأن الميسور لا عليك أن تبادر ما دام عندك هذا المال أن ترده لصاحبه وقد حل أجله، تعطيه لصاحبه حتى يستفيد منه، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مطل الغني ظلم يحل عقوبته وعرضه" أخرجه ابن حبان، فمطل الغني ظلم، والمطل هو التلاعب والتأخير في الديون، الحقيقة معنا قاعدة عظيمة. جداً لأن فيها روح الشريعة "الميسور لا يسقط بالمعسور". كلام في منتهى العلوم وكلام يستفيد منه الناس في اجتماعهم البشري، ويستفيد منه الناس في خاصة أنفسهم وفي تعاملهم مع ربهم ومع الناس ومع أنفسهم. يستفيد منه الناس في كل الجوانب. قاعدة مهمة "الميسور لا يسقط بالمعسور"، هذه من
ثمار الفقه. الإسلامي الغالية العالية إلى لقاء قريب استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته