قواعد الفقه الإسلامي | إعمال الكلام أولى من إهماله | ح1 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أهلاً بكم ومرحباً أيها الإخوة المشاهدون مع حلقة جديدة من حلقات قواعد الفقه الإسلامي. نلقي الضوء على قاعدة جديدة، ونختار اليوم هذه القاعدة التي يقول فيها الفقهاء: "إعمال الكلام أولى من إهماله". هذه قاعدة لطيفة فيها تصحيح. الكلام العقلاء: الناس تتكلم لنقل أفكارهم وما يقع في خواطرهم وقلوبهم للآخرين، فكلامهم يعبر عما في صدورهم، عن مكنون ضمائرهم. هذا الكلام إذا
احتمل وجهين، احتمل وجهاً صحيحاً واحتمل وجهاً آخر فاسداً، فإننا نحمله على الوجه الصحيح، ذلك لأن إعمال الكلام أولى من إهماله، تصحيحاً لمقاصد العقلاء، تصحيحاً لكلام العقلاء. وهذه القاعدة لها فروع كثيرة جداً، منها كما يضرب لذلك الفقهاء مثلاً: قول رجل لزوجته وابنه "أنت طالق مع ابنتي" أو "أنت وابنك طالق"، ولا
علاقة زوجية بينه وبينه، فالعلاقة الزوجية قائمة بينه وبين زوجته، فله أن يطلق زوجته لكن ليس له أن يطلق ابنه لأنه ليس هناك شيء. في الشرع اسمه هكذا، فنعمل بكلامه فيما يصح، حتى لو أبطلناه وأهملناه فيما لا يصح، ونحسب عليه طلاقاً، ونقول له: أنت بقولك هذا قد وقع الطلاق. لا يستطيع أن يحتج علينا ويقول: انتظروا، هذا جمعت فيه بين ما يصح لي وما لا يصح، وأنتم أيها الفقهاء عندما نجمع بين ما يصح وما لا يصح لا تعملون الكلام أو لا تعتبرونه، فلو قال رجل
لآخر: زوجتك ابنتي وفرسي مثلاً، فإنكم لا تصححونه. نقول: نعم، لأن مسألة الزواج خطيرة، ولذلك لا يكتفى فيها إلا بالتصريح وبالتحديد، فلا بد هنا من التصريح والتحديد. وعلى كل حال، فلما قال له: زوجتك ابنتي وفرسي، فإن... يتم زواج البنت والفرس يهذي ولا يُعتدّ به، ولذلك فنحن نستخدم الكلام فيما يصلح له. وكذلك هنا لو قال: "أنت وحماري طالق"، فإننا نوقع الطلاق على المرأة لأنها
محل للطلاق، ولا نوقعه على الحمار لأنه ليس محلاً للطلاق. مثال ذلك الأخطاء اللغوية في لغة العرب في قضايا الطلاق لو قال إن... دخلت الدار أنت طالب. ما هذا الكلام؟ هذا كلام فيه خطأ في اللغة العربية. كان ينبغي أن يقول: "إن دخلت الدار فأنت طالب". لا بد أن يأتي بالفاء هنا لأن الفاء يجب أن تدخل في جواب الشرط. "إن دخلت" هذا الشرط، "فأنت طالب" هذا الجواب. فهو قال: "إن دخلت الدار". أنت طالب، لم يقل "فأنت طالب". أبو حنيفة في مثل هذا يقول أن الطلاق لا يقع حتى لو دخلت الدار، لأن هذا كلام غير
مفهوم. ولكن الشافعية يقولون: إعمال الكلام أولى من إهماله، ففي هذه الحالة كأنه قال الفاء: "فإن دخلت الدار فأنت طالق"، وذلك لأن الشروط اللغوية أسباب شرعية للشرط. الشرط اللغوي يُفهم منه أنه إذا حدث فعل معين كان كذا أو سيكون كذا. العلاقة بين الشرط والمشروط في اللغة العربية هي علاقة سببية، والسبب عند الفقهاء هو ما يُستفاد من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. مثال ذلك بالضبط زوال الشمس؛ فإذا زالت الشمس وجبت صلاة الظهر، وإذا لم تزل الشمس بعد فلا يُؤذَّن للظهر.
إذاً لم يجب الظهر، إذاً إذا كان زوال الشمس سبباً للوجود لأنه يُستفاد من وجوده وجود الزوال ووجود الظهر، يكون الأذان إذن هكذا. أذان الظهر لم يأتِ بعد، إلى الوقت الذي يُؤذَّن فيه لصلاة الظهر، يعني لم تأتِ الساعة إلى وقت الزوال، نحن في الساعة الحادية عشرة صباحاً. مثلاً لم يُؤذَّن للظهر، إذاً لا توجد صلاة الظهر، فالزوال سبب، والغروب سبب، لأنه إذا غربت الشمس يجوز لي أن أفطر في رمضان، وإذا لم تغرب الشمس فلا يجوز لي أن أفطر في رمضان. فغروب الشمس سبب يُستفاد من وجوده الوجود، ويُستفاد من عدمه العدم. إذاً فالشروط اللغوية أسباب شرعية، فإذا ما... دخلت المرأة
الدار فإنه يكون ذلك سبباً في طلاقها، وإذا لم تدخل يكون ذلك سبباً في عدم الطلاق. إذاً فالشروط اللغوية أسباب شرعية. قاعدة لطيفة تنفعنا هنا في قضية أعمال الكلام أولى من إجالته، إذا كان هذا الكلام معتبراً ويحقق المقصود، فهناك أمور لا نستطيع فيها أن نُعْمِل الكلام وكما. ضربنا مثلاً لذلك الزواج، فلو قلتَ لأحدهم على لهجة أهل مصر مثلاً: "أعطيتك ابنتي"، فمعناها عند المصريين
أنه قد زوَّجها له، ولكن كلمة "أعطيت" هذه ليست من الكلمات الشرعية التي استعملها الشرع الإسلامي في الزواج. استعمل الشرع "زوجتك ابنتي"، واستعمل الشرع "أنكحتك ابنتي"، لكنه لم يستعمل "أعطيتك ابنتي". فلو قال شخص لآخر أعطيتك ابنتي يقصد الزواج، لا نأخذ كلامه بهذه الجدية نظراً لخطورة الزواج، لأن الزواج ستُبنى به أسرة، وسيكون هناك أطفال ونسب لهؤلاء الأطفال، وسيكون هناك وجوب للنفقة من قبل الزوج والطاعة من قبل الزوجة، وسيكون هناك ميراث بينهما، وستكون هناك حياة
أخرى تترتب عليها كثير جداً من الحقوق. ولذلك هو خطير جداً، ولذلك ومن أجل هذه الخطورة لا يمكن إعمال الكلام إلا على وجه مخصوص. إذاً هذه قاعدة أغلبية، غالباً ما نُعمِل الكلام، ويكون غالباً إعمال الكلام أولى من إهماله، مع قاعدة أخرى من قواعد الفقه الإسلامي التاريخي. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله.